كثيرة هي العبارات التي تهيمن على الوعي الجمعي، وهي ربما لا تحمل أية دلالات عميقة لها، كما أنها تتصادم مع المنطق والعقل والحجاج.. وبعضها لشدة تأثيرها (تذهب مثلا بين العرب) كما يقال.. حتى وإن كانت تحمل أحكاما مطلقة وعمومية.. قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة تقريبا ألف الراحل عبدالله القصيمي يرحمه الله كتابه الشهير (العرب ظاهرة صوتية) الذي جاء محملا بحدة صاخبة وعاصفة، وكان مثقلا بالصراخ حد النحيب، جاء الكتاب في 719 صفحة من الحجم الكبير لا تنفك لغته الساخطة عن مستوى أقل سخطا، بل يتصاعد في كل صفحة من صفحاته المتدافعة، وجاء على شكل مقالات وآراء يتداخل فيها الثقافي مع السياسي، والأدبي مع الديني... وهكذا في تسلسلية لا تهدأ أبدا. كان القصيمي ناقدا انطباعيا وكاتبا يشرح جسد الأشياء ولا يرتق فتقها، صحيح أنه كان يطرح الأسئلة ويترك لغيره تقديم الأجوبة، لكن لغة الغضب كانت أكبر من كل شيء، وهي التي هيمنت على كتابه الشهير ، وكذلك كتبه الأخرى، وجاءت عبارته الشهيرة (العرب ظاهرة صوتية) كإشارة أولى وعنوان لكتاب ضخم، ثم ما لبثت تلك العبارة (العنوان) أن ذهبت مثلا بين العرب.. ويؤكد صاحبها بقوله: «العرب ظاهرة صوتية.. نعم، إنه حكم لا يفرضه المنطق أو التفسير للأشياء والتحديق فيها فقط، كما لا تفرضه الأخلاق أو الشهامة أو إرادة العدل أو الصدق فقط، بل وتفرضه أيضا الشفقة ورفض الوقاحة والهجاء والتحقير والعدوان). ويقول «إن الإنسان العربي ليكون قويا في صوته، ويرى أن عليه أن يكون قويا في ذلك في المواقف والمواجهات والمشاكل التي يكون الآخرون أو المتكلمون أقوياء فيها بضرباتهم وأفعالهم وذكائهم وأفكارهم). إنه يقرر أن قوة الصوت هي خطاب العربي الذي يعتمد عليه، وهو رأي مطلق جائر بعض الشيء، ودائما يكون الطرح بعيدا عن الدقة والموضوعية، حينما يتم يتناول أمة من الأمم بإطلاق رأي عريض تجاهها، دون أن يخضع هذا الرأي للمنطق العلمي وأسئلة العقل، حتى وإن كان في ظاهره متفقا مع القول النقدي.. إن عبارة العرب ظاهرة صوتية لم تتكئ على منطلق علمي خاص، ولم تكن نتيجة دراسة نقدية منهجية، بل كانت مجرد رأي من كاتب اتسعت ثقافته، فجاءت مقالاته حادة لا ترحم أحدا. لكن يقول علي أحمد سعيد: إن ما يحتاج إليه العرب هو الكلام. فمنذ أبي العلاء المعري لم نتكلم. رددنا، كررنا، حفظنا، لكننا لم نتكلم، ويضيف: نحن الآن لا نتكلم، نصدر أصواتا بألفاظ.. من يتكلم يخلق بالضرورة أي يعمل، ما عدا ذلك يكون تصويتا ولغوا.. يكون سجادة ألفاظ... انتهى كلامه. إننا بحاجة إلى الكلام والخلق من جديد مع استلهام خطاب الماضي وعدم الانفصال عنه أو القطيعة معه، بل الاتصال والانطلاق من إشراقاته إلى رؤية حضارية متجددة. ورقة أخيرة: امرأة يركض العشب بين أهدابها.. أقيم لها في طرقات دمي خندقا وأظل حطابا في خمائل روحها.. [email protected]