لكل زمان مضى آية وآية هذا الزمان الصحف لسان البلاد ونبض العباد وكهف الحقوق وحرب الجنف تسير مسير الضحى في البلاد إذا العلم مزق فيها السدف ترنم الصحفيون بقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي، عندما أذاع ونشر قصيدته هذه محفزا الطامحين ليكونوا في فيلق الصحافة في بكور أيامها.... وتحت هذا المعنى كان يرى معظم الصحفيين المحترفين أنفسهم في ظلال «آية هذا الزمان» يشحنهم انتماؤهم لها بشعور يتنازعه الفخر بالانتماء وخوف المسؤولية الثقيلة التي توجبها أخلاق هذه المهنة وشروط الموضوعية في أدائها. وكانت التجربة الصحفية السعودية في بدايتها تعتمد في صحفييها كليا على «الهواة»، سواء كان الدافع معيشيا أو كان إشباعا لهواية الأدب، وتعتمد في مواضيعها على المقالات والبحوث وقصائد الشعر، وما يتيحه الاستماع للأخبار من قضايا الساعة.. وظل الحال كذلك حتى جاء خريجو كليات الصحافة من السعوديين فضخوا في الصحافة السعودية خبراتهم، عاملين وكتابا، وكان من أبرزهم محمد علي حافظ (سليل الأسرة الصحفية الرائدة علي وعثمان حافظ رحمهما الله)، وهو يرأس تحرير جريدة المدينة اليومية عام 1382ه، فحرك الراكد بما أدخلته الجريدة من جديد الأبواب والمواضيع ومن جرأة كتاب الأعمدة واليوميات والأبواب والمعالجات، ما وضع الصحافة السعودية اليومية في مرحلة جديدة من تطورها المهني. تذكرت هذا، وأنا أتابع جهود نادي جدة الأدبي؛ لتكريم أستاذي محمد صلاح الدين الدندراوي رحمه الله، واستعادت ذاكرتي الأيام التي عمل بها مديرا لتحرير جريدة المدينةالمنورة في عهد الأفراد عام 1382ه، عندما كان يعمل مع محمد علي حافظ رئيس تحرير الجريدة، ورغم أني لم أكن يومها في الدائرة الضيقة لناشري الجريدة لأعرف حجم إسهامه في النقلة التطويرية الكبرى بمعايير ذلك اليوم، إلا أن ما عايشته ولمسته، عندما توثقت صلتنا المهنية، من طموحه اللا محدود في التجديد والتحديث يجعلني أعتقد أن له دورا في تلك النقلة التطويرية، ولذلك شواهد لاحقة. نحن الآن في أوائل الثمانينيات الهجرية من القرن الرابع عشر، والستينيات الميلادية من القرن العشرين الميلادي المنصرم، والظروف السياسية في تلك الحقبة تمور بتحولات في المنطقة العربية والإسلامية التي دخلت إليها «الشيوعية الدولية»، تحت ستار أحزاب عربية تتبنى الاشتراكية الماركسية، والثورية الأممية؛ لتغيير الأنظمة التقليدية من ملكيات وإمارات وجمهوريات لم تنجرف وراء دعوى «الاشتراكية» التي يقودها الاتحاد السوفيتي «المنحل» وزمرة من شيوعيين محليين داخل الأمة. ومن أخطر ما عاشته تلك الحقبة: «الإعلام»، سواء منه المقروء أو المسموع، الذي كان يطلق على منهجه «اليسارية»، واختط الهجوم على الأنظمة التقليدية العربية والإسلامية، يروج للقضاء عليها، محاولا إظهار محاسن سياسية واقتصادية للاشتراكيين، وقد نال المملكة العربية السعودية من استفزازات الإعلام اليساري العربي في تلك الحقبة أذى كثيرا. واقتحمت الدعاية اليسارية حدود بلادنا، فتصدى لها إعلامنا الرسمي منه والشعبي بإمكانات أقوى أسلحتها صدقه، وقوة حججه، وإسناد ظهره إلى الإسلام وقيمه، وكفى بذلك حصنا منيعا في رفض ما تروج له الاشتراكية العربية من وعود زائفة، تخفى وراءها «النفوذ الشيوعي السوفيتي»، فخابت وخسرت أهدافه وخططه، حتى دالت دولته، فتحول ضجيج آلته الإعلامية إلى رماد تذروه الرياح. وكان لهذه الحقبة في الإعلام السعودي رموز أخذت شهرتها من تصميمها وحسن تخطيطها وصدق توجهها وعزم تصديها وقوة إقناعها، ولا يمكن لمن عايش تلك الحقبة أن ينسى مؤسس الإعلام السعودي الحديث معالى الشيخ جميل إبراهيم الحجيلان (أول وزير للإعلام في المملكة العربية السعودية).. فقد قاد بتخطيطه وبقلمه وبما استعان به من شباب الوطن هجوما مضادا لهذا المد الإعلامي اليساري، وكان ممن نثر كنانته فى هذه المعركة الإعلامية الكبرى الأستاذ محمد صلاح الدين رحمه الله.. وبلاؤه فيها مع نخبة من أدباء المملكة وصحفييها معروف. ويعنينا هنا، فى يوم تكريمه في النادى الأدبى بجدة، كشف بعض جوانب مما كان يطمح إلى تحقيقه ليرتقي بمستوى إعلام بلاده المملكة العربية السعودية، من خلال تجربة تلك المعركة الإعلامية الشرسة مع الإعلام اليساري في المنطقة العربية خاصة، فقد سعى وبذل جهده لتأسيس جريدة يومية تصدر خارج الوطن تعكس أخبار المملكة ونهضتها وتطورها، وترد عنها هجمات مسعورة تنال من توجهها وتغمط جهودها في التنمية والتقدم، والسبب في مسعاه هذا كان المشكلة التي كان يواجهها الإعلام السعودي المكتوب من ضعف توزيع الصحافة السعودية خارج المملكة، وتعرف الرأي العام العربي في البلدان الأخرى على جهود المملكة ومواقفها من تطورات الأحداث، ومن القضايا القومية عامة، مما سهل التشويش عليها، فأراد أن يجعل من «دولة البحرين» منطلقا لإصداره الذى ظل حبيس الأدراج السرية فى مكتبه وفى مكاتب شركائه فى المشروع... ولم تتوفر له الإمكانات لترى هذه الفكرة النور.. ولما لم تكن فى بلادنا جريدة يومية تصدر بلغة أجنبية كالإنجليزية، فكر رحمه الله كيف يملأ هذا الفراغ، فأصدر نشرة يومية باسم «ربليكا»، واسمها يدل على أنها تنشر بالإنجليزية طبق الأصل، وفى نفس اليوم خلاصة ما تنشره الصحف السعودية اليومية والأسبوعية مما يهم الجالية الأجنبية فى المملكة، وفى مقدمها السفارات الأجنبية والقنصليات والشركات ورجال الأعمال الأجانب، وتوزع هذه النشرة يدويا مع بواكير كل صباح على مشتركيها، ولقيت هذه الفكرة رواجا ونجاحا، واستمرت في الصدور حتى ظهرت «عرب نيوز» أول جريدة إنجليزية يومية تصدر بالإنجليزية عن الشركة السعودية للأبحاث والتسويق لصاحبيها هشام علي حافظ رحمه الله، ومحمد علي حافظ أطال الله عمره، فتوقفت «ربليكا» بعد فترة من صدور عرب نيوز. ولأن محمد صلاح الدين رحمه الله كان مهموما بهموم عالمه العربي والإسلامي، فقد أحيا فكرة الإصدار الإعلامي من خارج المملكة، ليحمل رسالة المملكة وفكرها وتصورها، فأسس مع شركاء في لندن «وكالة الصحافة الإسلامية»، ومن شركائها إبراهيم الوزير وإخوانه، كان من ثمرتها إصدار أسبوعي «أرابيا» باللغة الإنجليزية، واختار له د. فتحى عثمان (أحد الأكاديميين المعروفين) ليقود تحريرها، مدافعا عن الإسلام وقيمه، وعارضا مشروع الإسلام الإنساني والحضاري على الساحة الغربية، وكان لها صدى طيب في تلك الحقبة. وكان يريد هو وشركاؤه (وهو رأس الحربة في المشروع) أن تتنوع إصدارتها الإعلامية على أعلى مستوى مهني، من خلال اختيار أفضل العناصر المؤهلة في الغرب؛ لتخاطب الغرب بلسانه وأسلوبه وبما تطمئن إليه قلوبهم، فصدر عنها: مجلة الدفاع الإسلامي ومجلة الصحة الإسلامية، وكان مخططا أن تصدر مجلة العلوم الإسلامية، واختار لها د. الحباب السبكي، ولكنها لم تصدر، وكان يخطط لإصدار نسخة شبيهة بمجلة «أرابيا» باللغة العربية، وتناقش مع المفكر الإسلامي فهمى هويدى ليرأس تحريرها، لكنها لم تلق النور، كما كان يدرس إنشاء مجلة للعلوم والتكنولوجيا الإسلامية، وندب الصديق الأستاذ محمد المختار الفال ليفاتح د. هشام يمانى (وهو من ألمع الشباب السعودي فى مجال التقنية) في شأن المجلة وما تحتاج إليه، ولم يظهر هذا المشروع.. وكان القاسم المشترك لتعثر هذه المشاريع ضعف التمويل اللازم لإصدار مثل هذا العمل الضخم بمهنية واحترافية عالية مقنعة، فتوقف المشروع، وبقيت تجربته تنتظر من يحييها. وكان رحمه الله فى كل هذه المشاريع يواجه معضلة توفير الكوادر المهنية من أبناء المسلمين في التخصصات التي يخطط لإصدارها عن وكالة الصحافة الإسلامية، وليجسر هذه الفجوة، أقدم على خطوة متقدمة في الفكر الاستراتيجي الصحفي، فقد وضع خططا لإنشاء مركز لتدريب الكوادر الصحفية من شباب المسلمين في الغرب؛ ليتولوا تلك المسؤولية بمهنية واحتراف.. ولم ير المركز النور. وكل من زار مكاتب وكالة الصحافة الإسلامية في لندن كان يبهره أن يرى بين جهاز الوكالة الإداري والصحفي: مفكرين وشبابا من العالم الإسلامي كله: من المملكة العربية السعودية، مصر، أوروبا، أفريقيا، آسيا، وشبه القارة الهندية الباكستانية، والسودان، وغيرها ممن عملوا، وغيرهم ممن كان التفاوض على توظيفهم في انتظار بلورة المشاريع الصحفية الجديدة. ولا أذيع سرا إذا قلت أن أستاذنا محمد صلاح الدين رحمه الله، حقق بعض الأرباح من أعمال تجارية في فترة الطفرة الأولى في التسعينيات الهجرية (سبعينيات القرن الميلادي الماضي)، وضخ كل ما حققه من أرباح، وكانت بملايين الريالات، في هذه المشاريع، مضحيا بحاجة أهله وأسرته إلى سكن يملكه، فقد بقي ساكنا بالإيجار، والثروة تتفلت من بين يديه فى هذه المشاريع الضخمة على إمكانات الأفراد مهما كانت ثروتهم، وبعد أكثر من نصف قرن في مهنة الصحافة، احتاج بعد توقف هذه المشاريع إلى الاقتراض لشراء سقف يؤوي أسرته، ووفقه الله لسداد قروضه قبيل فترة من وفاته رحمه الله. كان رحمه الله من القليلين الذبن إذا أقدموا على عمل أعطوه كل ما يملكون من وقت وجهد وإخلاص وتفان ومال، فى صمت، وبلا ضجيج.... ومن كان يراه ولا يعرفه، ويرى هدوءه وصمته، وقلة كلامه فى المجالس، وتجنبه الخوض فيما لا يعنيه، لا يتصور أن مثله يتقحم الصعاب، ويخوض غمارها غير هياب ولا وجل، كان لا يبالي بما يثبط حماسه، كما كان لا يبالي ما قد يعرض له من متاعب عندما يكتب موقفا ورأيا، لا تشتته عن ذلك الإغراءات، ولا يهمه ما قد يعرض له من مصاعب، أو حتى فتور صداقته مع صديق عزيز. وفى يوم تكريمه، حري بشباب أمتنا أن يستفيدوا من دروس رجل عمل أعمالا كبيرة في صمت، وأن يهتم الدارسون في كليات الصحافة بجامعاتنا لبحث ورصد جهود روادنا الصحفيين، ومنهم أستاذنا رحمه الله... وهذا شيء من أشياء تستحق أن نتذكرها فى يوم ندوة النادي الأدبي بجدة عنه، ونهوض نخبة من الأوفياء من أصدقائه ومعارفه ومحبيه لتجديد الحديث عن الفقيد ومآثره، على منصة الندوة ومن بين الحضور.