«الإحصاء»: ارتفاع عدد ركاب السكك الحديدية 33% والنقل العام 176%    السعودية بصدد إطلاق مبادرة للذكاء الاصطناعي ب 100 مليار دولار    أمطار رعدية متوسطة إلى غزيرة على عدد من المناطق    هاريس تلقي خطاب هزيمتها وتحض على قبول النتائج    إصابة فلسطيني برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحام بلدة اليامون    الجسر الجوي الإغاثي السعودي إلى لبنان يتواصل بمغادرة الطائرة الإغاثية ال 20    الذهب يقترب من أدنى مستوى في أكثر من 3 أسابيع    منتخب الطائرة يواجه تونس في ربع نهائي "عربي 23"    العام الثقافي السعودي الصيني 2025    الإعلام السعودي.. أدوار متقدمة    المريد ماذا يريد؟    ترمب.. صيّاد الفرص الضائعة!    ترمب.. ولاية ثانية مختلفة    إيلون ماسك: خطط خارقة للمستقبل    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    الاتحاد يصطدم بالعروبة.. والشباب يتحدى الخلود    هل يظهر سعود للمرة الثالثة في «الدوري الأوروبي» ؟    الإصابات تضرب مفاصل «الفرسان» قبل مواجهة ضمك    «البيئة» تحذّر من بيع مخططات على الأراضي الزراعية    القبض على مخالفين ومقيم روجوا 8.6 كيلو كوكايين في جدة    أربعينية قطّعت أمها أوصالاً ووضعتها على الشواية    قصص مرعبة بسبب المقالي الهوائية تثير قلق بريطانيا    البنوك المركزية بين الاستقلالية والتدخل الحكومي    «بنان».. سفير ثقافي لحِرف الأجداد    السينما السعودية.. شغف الماضي وأفق المستقبل    اللسان العربي في خطر    234.92 مليار ريال قيمة ترسية المشاريع    ربَّ ضارة نافعة.. الألم والإجهاد مفيدان لهذا السبب    الجلوس المطوّل.. خطر جديد على صحة جيل الألفية    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    سيادة القانون ركيزة أساسية لازدهار الدول    درّاجات إسعافية تُنقذ حياة سبعيني    «متمم» يناقش التحوُّط المالي في المنشآت التجارية    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    الإصابة تغيب نيمار شهرين    التعاون يتغلب على ألتين أسير    الدراما والواقع    يتحدث بطلاقة    «الجناح السعودي في اليونسكو» يتيح للعالم فرصة التعرف على ثقافة الإبل    العين الإماراتي يقيل كريسبو    التعاطي مع الواقع    القابلة الأجنبية في برامج الواقع العربية    الثقة والصلاحيات    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    تقاعد وأنت بصحة جيدة    الأنشطة الرياضية «مضاد حيوي» ضد الجريمة    وزير الحرس يحضر عرضًا عسكريًا لأنظمة وأسلحة وزارة الدفاع الكورية    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    محافظ الطائف يعقد اجتماع مجلس اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم    أمير تبوك يستقبل القنصل الإندونيسي    تطوير الشرقية تشارك في المنتدى الحضري العالمي    نائب أمير الرياض يؤدي الصلاة على والدة مضاوي بنت تركي    فلسفة الألم (2)    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    دشنها رئيس هيئة الترفيه في الرياض.. استديوهات جديدة لتعزيز صناعة الإنتاج السينمائي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد صلاح جمجوم رائد الصحافة
نشر في البلاد يوم 22 - 06 - 2010

ودّع الأقارب والأحباب قبل أسبوعين معالي الشيخ أحمد صلاح جمجوم الذى وافاه الأجل يوم الثلاثاء 25 جمادى الآخرة عام 1431ه، ودفن يرحمه الله بمقبرة المعلا بمكة المكرمة بعد مغرب يوم وفاته بعد الصلاة عليه بالمسجد الحرام . وودعت معهم الصحافة فى المملكة العربية السعودية رائداً من رُوادها وبانياً من بُناتها، شأنه فى ذلك شأن روادها الأوائل، ممن ضحوا لدخول هذه البلاد عالم الصحافة على ُشحّ الإمكانات، وندرة القدرات، وقلة الخبرات المهنية، وانعدام البُنَى التحتية الملائمة.
انضم الشيخ أحمد صلاح جمجوم يرحمه الله لرواد الصحافة فى هذه البلاد من أمثال : محمد توفيق صاحب " شمس الحقيقة" التى أصدرها عام 1327ه - 1909م، ومحمد مصطفى توكل صاحب" الإصلاح" وأحمد رأفت اسكندرانى صاحب " صفاء الحجاز" ومأمون الأرزنجانى صاحب" المدينة المنورة" وإبراهيم الخطيب وأبو بكر داغستاني صاحبي" الرقيب" وكلهم أصدروا صحفهم مابين عامى 1327 – 1332ه .كما انضم الى الرواد من قبله فى صناعة الصحافة فى بلادنا من أمثال: السيد حمزة غوث صاحب" الحجاز " التى أصدرها عام 1334ه - 1916م، و محب الدين الخطيب مدير " القبلة" عام 1334ه ، وهاشم المعرى صاحب مجلة جرول الزراعية التى أصدرها عام 1338ه - 1920م، وإلى عمر شاكر صاحب" الصلاح" التى أصدرها عام 1338ه ، وإلى محمد صالح نصيف صاحب " بريد الحجاز" التي أصدرها عام 1343ه - 1924م، و" صوت الحجاز" التى أصدرها عام 1350ه - 1932م، وفؤاد شاكر صاحب " مجلة الحرم التى أصدرها عام 1349ه - 1930م.
كما انضم إلى رواد الصحافة فى هذه البلاد من أمثال السيدين علي وعثمان حافظ صاحبي " المدينة المنورة" اللذين أصدراها عام 1356ه - 1937م، وعبد القدوس الأنصاري صاحب " المنهل" التي أصدرها عام 1355ه - 1937م،ومصطفى أندرقيري صاحب " مجلة النداء الإسلامي" التى أصدرها عام 1356ه - 1937م، وصالح محمدجمال وأحمد محمد جمال صاحبي" حراء" التي صدرت عام 1367ه - 1956م، ومحمد عبد الله علي رضا الذى كان رئيس الغرفة التجارية بجدة والتي أصدرت" مجلة الغرفة" عام 1367ه - 1948م، وحمد الجاسر صاحب مجلة " اليمامة" التى صدرت عام 1372ه - 1953م والذي أصدر كذلك عام 1386ه - 1966م مجلة" العرب" ، والسيد أحمد عبيد صاحب " مجلة الرياض" التى أصدرها عام 1373ه -1953م، ومن قبل" صرخة العرب" عام 1355ه، وعبد الله الملحوق صاحب " أخبار الظهران" الذى أصدرها عام 1374ه - 1954م، وأحمد اليعقوب صاحب " الفجر الجديد" التى أصدرها عام عام 1374ه - وعبد الفتاح أبو مدين ومحمد سعيد باعشن ومحمد أمين يحيى أصحاب" الأضواء" وسعد البواردي صاحب" مجلة الإشعاع" التي أصدرها عام 1375ه - 1955م، وأحمد السباعي صاحب " الندوة " التي أصدرها عام 1377ه - 1958م، و" قريش" التي أصدرها عام 1379ه - 1959م، وحسن عبد الحي قزاز صاحب" عرفات" التى صدرت عام 1377ه - 1957م، وعبد الله شباط صاحب " الخليج العربي" التي أصدرها عام 1377ه - 1958م، وعبد الله العلى الصانع صاحب" القصيم" التى أصدرها عام 1379ه - 1959م، وأحمد عبد الغفور عطار صاحب " عكاظ" التي أصدرها عام1379ه -1959م، وطاهر زمخشرى صاحب " مجلة الروضة التي أصدرها عام 1379ه - 1959م، وعبد الفتاح أبو مدين الذي أصدر منفردا" الرائد " عام 1379ه - 1959م، ومحمد عبد الله مليباري صاحب" الرياضة" التي أصدرها عام 1380ه - 1960م وعبد العزيز مؤمنة صاحب الأسبوع للتجارى الذي أصدره عام 1382ه - 1962م، والسيدين هشام ومحمد علي حافظ اللذين أصدرا من جدة عام 1393ه،- 1973م أول جريدة يومية باللغة الإنجليزية، لتتطور لاحقا لتكون أنجح وأشهر الصحف الإنجليزية الصادرة في العالم العربي.
ولم يكن كل ما رصدناه أعلاه نقلاً عن كتاب" تطور الصحافة فى المملكة العربية السعودية، لمؤلفه السيد عثمان علي حافظ، من تسلسل نشاط رواد الصحافة فى بلادنا في عهد الأفراد، إلا مقدمة لظهور نوابغ علي مسار سلفهم في تطوير الصحافة السعودية في عهد المؤسسات الصحفية، والذي ما يزال سائدا إلى اليوم، مع بعض الاستثناءات التي تمثلها: الشركة السعودية للأبحاث والنشر، ومؤسسة الحياة، والتي كان نظام المؤسسات لا يسمح لإصدارتها من المملكة، فجاءت من نافذة الخارج، وكان مجيئها تطورا جُّد حميد، ومفيدا للصحافة السعودية عالميا ومحليا.
ثم يأتي الشيخ أحمد صلاح جمجوم يرحمه الله مع ُبناة الصحافة فى المملكة العربية السعودية فى عهد المؤسسات الصحفية، والذى بدأ عام 1383ه 1963م، وعندما انضم الفقيد الغالي يرحمه الله إلى عضوية مؤسسة المدينة للصحافة التي ورثت " المدينة المنورة- الأفراد" لم يجد أعضاؤها في أول اجتماع لهم لترتيب شؤون المؤسسة، خيرا من الشيخ أحمد جمجوم ليتولى منصب " المدير العام" للمؤسسة، وهو أعلى منصب تنفيذي فيها، فقد جاءها يرحمه الله، مع سابق خبرة فى العمل الصحفي، فقد كان مشاركا فى فريق كتاب جريدة " عرفات" كما يقول صاحبها حسن عبد الحي قزاز، عندما جمع رموز شباب الوطن إبان صدورها، فكان اسم الفقيد الغالى يرحمه الله يتصدر أول عدد من الجريدة، فيقول حسن قزاز فى افتتاحية أول عدد- كما فى كتابه مشواري مع الكلمة" وقد التزم كل عضو من أسرة التحرير بكتابة باب ثابت يتلاءم مع اختصاصه وميوله، فالأستاذ أحمد زكي يماني التزم بكتابة المواضيع القانونية وقضايا المجتمع، والأستاذ أحمد صلاح جمجوم التزم بموضوع إقتصادياتنا، والأستاذ عبد العزيز الرفاعي التزم بكتابة يوميات قصيرة، والأستاذ محمد عبد القادر علاقي بكتابة مجتمع الطلبة وماذا فى الحقيبة، والأستاذ شكيب الأموي بموضوع أعرف بلادك والقصة القصيرة والترجمة. ويظهر من الإلتزام لأصحاب الأبواب الثابتة مدى الجهد المبذول من كتابها فى دعمها"
وبهذه الخلفية التحريرية، وبتخصص الفقيد الغالي في مجال التجارة، وتلقيه دورة متخصصة في أنظمة الضرائب بعد تخرجه من جامعة القاهرة في جامعة – هارفارد – أشهر جامعات العالم، قاد مؤسسة المدينة للصحافة، وكان أول ما قام به، أن أرسى قواعدها الإدارية والمالية، فقد كانت المؤسسة المتميزة – حتى اليوم - بانضباط دفاترها، بمالا يسمح لأي تلاعب في وارداتها، ولا إغفال لمصاريفها، وكانت على ما أذكر "مِنْ" إن لم تكن الوحيدة التى كانت تصدر ميزانية مالية منتظمة – حتى اليوم - في موعد صدور الميزانيات: الأول من شهر رجب من كل عام.وكانت مداخيل الصحف فى ذلك فى غالبها تعتمد على ما يباع منها للجمهور وما تشترك به الدوائر الحكومية والشركات، فلم يكن ذلك كافيا لتطوير الصحف، التى كان طباعتها فى المطابع التجارية
"تشفط" أكثر وارداتها.لكن الشيخ أحمد جمجوم يرحمه الله كان رجل مبادرات ، وصاحب همة عالية، وقرارات سريعة مدروسة وحاسمة، يصُّبُّ فى سمعه ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي عن حالة الصحافة فى تلك الحقبة:
فيا فتية صبرا إذا نبا الرزق فيها بكم واختلف
خذو القصد واقتنعوا بالكفاف وخلوا الفضول يَغلها السرف
لكنه رحمه الله، بهمته العالية وضع مع ثلة من أعضاء المؤسسة نصب عينيه، توفير البُنى التحتية للمؤسسة، وأولها " مطابع مملوكة .. ومقرا مملوكا" وربما أقضّه أن تمر تلك الليلة التى مرت بالجريدة وهى تصارع الصدور، بعد أن خذلتها – المطابع – فظلت تدور قليلا، وتتوقف كثيرا، بسبب ارتفاع درجة حرارة محركها الكهربائى، حتى أصبح الصبح، ولم يطبع من الجريدة ما يكفى حاجة السوق، فاضطرت المؤسسة فى اليوم التالي إلى تغيير المطبعة التجارية بأخرى، التى زادت أجرة الطباعة لمعرفتها بألاَّ بديل أمام المؤسسة إلا تلك المطبعة، وإلا لا صدور للجريدة.وكان تأجير المقر، وكلفة فاتورة الطباعة " ضربتين موجعتين فى رأس المؤسسة" فقرر يرحمه الله نقل الإدارة إلى مبنى يملكه هو وإخوانه، ووضع أجرة له تتحملها المؤسسة، كما وقرر التنازل عن المكافأة المقررة له من أعضاء المؤسسة لقاء إدارته لها، وبدأ مع زميله – عبد الله القصبي – ومجلس الإدارة مجتمعين فى تدبر المال اللازم لشراء مطبعة خاصة بالجريدة، فكان أن تم شراء مطبعة مستخدمة، وفر لها أيضا جانباً من أرضه وشركائه من إخوانه بنى فيه مبنى يناسبها، فدارت فيها دواليب المطابع ، فكانت تلك انطلاقة المؤسسة إلى طور جديد من النمو والازدهار والتقدم والنجاح والتميز، والأرباح السنوية المنتظمة، تعوض الشركاء عن استثماراتهم.
كان الشيخ أحمد جمجوم فى إدارته للمؤسسة يحرص أشد الحرص على توفير التناغم والانسجام بين أعضاء المؤسسة، ويتلافى الخلافات، بحسن الاستماع إلى جميع أعضائها، واحترام آرائهم، فكان ذلك سمة من سمات استقرار المؤسسة فى الفترات العديدة التى قادها فيها.وعندما يظهر له خلاف لا علاج له، إلا بالصدام، كان يترك العمل، محتفظا بصداقة وود الجميع، وفى مرحلة من المراحل التى دب فيها الخلاف، وكنت وقتها أعمل سكرتير تحرير للشؤون الخارجية، تحت رئاسة رئيس تحرير الجريدة الشيخ عثمان حافظ يرحمه، وتحت إدارة أستاذي محمد صلاح الدين، أغضبني موقف لم أحمده لإدارة المؤسسة، وكان الشيخ أحمد جمجوم خارج إدارة المؤسسة، فقدمت استقالتي من العمل، وقلت لعلي أجرب العمل فى الشركات، ولم تمض علي شهور حتى اتصل بي السيد محمد علي حافظ – أمد الله فى عمره فى صحة وعافية – واجتمعت به مع شقيقه السيد هشام علي حافظ يرحمه الله، وعرضا علي رئاسة تحرير إصدار جديد مختلف كل الإختلاف "جريدة عرب نيوز" أول جريدة يومية إنجليزية تصدر بالمملكة من القطاع الخاص" الشركة السعودية للأبحاث والتسويق" فقبلت عرضهما، لما فيه من إغراء مادي وأدبي، ولسابق تجربتي العملية معهما، عندما كنت متعاونا أحرر صفحة أسبوعية- دعوة الحق – فى جريدة – المدينة المنورة – إبان نقلهما للجريدة من المدينة المنورة ليصدراها فى جدة " يومياً" فأغراني ما وجدت منهما وقتها – وأنا طالب – من كرم وحسن تعامل واحترام.وقضيت في " عرب نيوز عامين رئيسا لتحريرها" فأثقلني العمل والسهر والمسؤلية، فقدمت استقالتي، نافذةً يوم يجِد البديل.وتركت العمل الصحفي – ظاناً أن ذلك يكفي – وقلت لنفسي: استقبل الطفرة الاقتصادية التي بدأت بشائرها مع مطلع التسعينات الهجرية – السبعينات الميلادية من القرنين الهجري والميلادي الماضيين، لعلي أصيب منها ما يُغني عما أتلقاه بالسهر وطول ساعات العمل في الصحافة.
لكني عام 1396ه تلقيت بعد شهور من مغادرتي" عرب نيوز " اتصالاً من أستاذي محمد صلاح الدين، يطلب مني زيارة الشيخ أحمد جمجوم، فقد ألحّ في السؤال عني، وكان معاليه قد عاد لتوه من استراحة المحارب ليتولى قيادة مؤسسة المدينة للصحافة، وكانت ظروف المؤسسة يومها صعبة، من الناحية التحريرية، فقد تدنت مكانتها في السوق الإعلاني، وتوزيعها بين القراء، وفوجئت بالشيخ أحمد جمجوم يعرض علي العودة " مديرا لتحرير جريدة المدينة المنورة" لفترة ريثما يرتب استصدار إذن بأن أتولى رئاسة تحريرها، وجادلني رحمه الله من باب الوفاء للموقع الذي تعلمت منه الصحافة في عهدي الأفراد والمؤسسات، فقلت " وما الحب إلا للحبيب الأول" وقد قال علي بن الجهم:
وجربنا وجرب أولونا فلا شيء أعز من الوفاء
فعملت " مديرا للتحرير" وإدركت لاحقا أنه يرحمه الله أراد هذه الفترة من مسؤليتي للتحرير أن يختبر قدراتي على القيادة التحريرية كما يتمناها، وأرجو ألا أكون قد خيّبْت ظنه، وبعد ستة شهور جاءت موافقة وزارة الإعلام، في عهد معالي الدكتور محمد عبده يماني أمد الله فى عمره فى صحة وعافية، وصدر قرار الجمعية العامة لمؤسسة المدينة للصحافة بتعييني " رئيساً للتحرير". وهنا بدأت صلتي اللصيقة، والقريبة، وشبه اليومية بالفقيد الغالي، وهي صلة استمرت بلا شائبة حتى غادرت المؤسسة لا حقاً كُرهاً مني وكُرهاً من المؤسسة - لظروف خارجة عن إرادتينا.فاجأنى يرحمه الله في أول تعاملي كمدير للتحرير، وكرئيس للتحرير، ذلك الباب المفتوح أمامي ليلاً ونهاراً، وبكرة وعشيا، فكان لا يرد لي طلباً معقولاً ، ولا يتبرم من كثرة ترددي عليه، حتى أني وكنت أسهر مع الجريدة حتى طباعتها فجراً، وترد من المعاملات ليلاً ما يقتضي أخذ موافقته، فكنت أعرضها عليه بعد صلاة الفجر ، فكان ذلك مما يلقي عبء الحرص على تحقيق ما يريد للمؤسسة، حتى أصبحت المؤسسة إدارة، والجريدة – تحريراً – في قمة الصحف السعودية، إيراداً، وانتشاراً، بفضل الله أولا ثم بفضل حنكة الشيخ أحمد جمجوم، وقربه الدائم من تطور التحرير، ومبادراته الشخصية، ودعمه لمبادرات جهاز التحرير لتطوير العمل الصحفي.ولا أنسى ضغط الطلبات على الجريدة، وكانت تطبع يومياً ما بين 80-90 ألفا، يطلبون زيادة الكمية المعروضة، وبالتالي زيادة الطبع، وقد نصح محاسب المؤسسة بعدم زيادة المبيعات على الحد الذي وصلت زاعماً أن كل نسخة تطبع زيادة على 90 ألفاً تعتبر خسارة تأكل من الأرباح، رغم أن نسبة الرجيع من الكمية المطبوعة لم تكن تتجاوز 7% فقط.
وفى فترة الطفرة ظهر فى الأجواء الإدارية الصحفية " فكرة امتياز الإعلانات" فعرضت " تهامة للإعلان والعلاقات العامة" على الصحف " إمتياز الإعلان" بشراء " تهامة" لمسحات الإعلان فى الصحف، لقاء دخل مالي شهري مضمون، واستجابت أغلب الصحف السعودية لهذا العرض، بعد تجربة إداراتها الصعبة فى تنمية مداخيل الإعلان، فظهرت شركة متخصصة كانت قادرة على تنمية إعلانات الصحف والوفاء بعقودها، حيث كانت تدفع لكل صحيفة من صحف الامتياز ما ينص عليه العقد في موعده بلا تأخير، فاستراحت إدارات الصحف من اللهاث وراء جلب الإعلان، واللهاث وراء تحصيل حقوقها، وخفف عنها وطأة غرام التجار بالحسومات على إعلاناتهم، فركنت المؤسسات التى أعطت الامتياز إلى الراحة، والرضى بعقود امتياز الإعلان، والذي كان مرحلة ناجحة بلا شك من مراحل " توطين الإعلان – خاصة الدولي منه - فى الصحافة السعودية".وسألني الشيخ أحمد جمجوم يرحمه الله عن رأيي في منح امتياز إعلان صحيفة المدينة المنورة، فكان ردي: أن نبقى أحرارا خير لنا، نأخذ من سوق الإعلان نصيبنا، ولا نقيد أنفسنا، ولعله اقتنع برأيي، فعرض يرحمه الله الأمر على مجلس إدارة المؤسسة، فاعتذروا عن منح الإمتياز، فكان فى هذا القرار الحكيم خير كبير، وباب رزق واسع على المؤسسة، وعلى الجريدة.
وعلى خطى امتياز الإعلان فى الصحف السعودية، ظهرت فكرة أخرى لامتياز توزيع الصحف السعودية، وكانت جريدة "المدينة المنورة" خارج هذا النوع من الإمتياز،فرسخ الشيخ أحمد جمجوم استقلالية تسيير المؤسسة للتوزيع وعدم ارتهان مرونة التوزيع التي يتطلبها قرار إغلاق الجريدة وإرسالها للطبع،بحسب متطلبات السبق الصحفى، مما مكن الجريدة أن ترسخ مكانتها المتقدمة توزيعيا، كما رسختها إعلانيا.على أن أهم ما حققه الشيخ أحمد جمجوم لمؤسسة المدينة للصحافة يتجلى فى جانبين:
1 – توفير أفضل التجهيزات الطباعية، وتوفير أفضل بيئة للعمل بالشروع فى إنشاء مبنى للمؤسسة، يجمع شتات مكاتبها تحت سقف واحد، وحرص يرحمه الله على أن يأخذ الفريق الإستشارى الذى عُهِد إليه بتصميم "مجمع مباني المؤسسة الطباعية والتحريرية والإدارية" كافة احتياجات كل قسم فى المؤسسة من رؤساء الأقسام، واستجاب يرحمه الله لاقتراحي بتكليف الإستشاري بزيارة أنجح الصحف الأوروبية لمعرفة كيف صممت المباني الطباعية والصحفية الحديثة مع بدء تقنية الكومبيوتر، بما يسهل تدفق العمل وراحة العاملين، خاصة وأن مؤسسة المدينة كانت قد تقدمت خطوة فى إدخال نظام "المكننة التحريرية" بإدخال أفضل ما كان متاحاً من تقنيات صف وتنضيد الصحف، والمبنى الحالي بشارع الصحافة هو ثمرة هذا التوجيه، الذى كان الفقيد الغالي يرحمه الله يتابعه شخصيا، والذي حرص على دعوة معالى أمين مدينة جدة وقتها د. محمد سعيد فارسى للمشاركة برأيه، فقدم لمسات ساهمت فى انجاز هذا الصرح الحضاري والذي كان يوم إنجازه وافتتاحه " لا متعة للناظرين فحسب، بل عملا يتناسب مع النقلة التكنلوجية الجديدة.ولما استقر الرأى على شراء مطابع جديدة، كلفني يرحمه الله برئاسة فريق عمل جابَ مصانع أوربا لآلات الطباعة الثقيلة، وكان حرصه أن تشتري المؤسسة مطابع بحجم طموحه الكبير، فوقع الإختيار على شراء مطبعة من أشهر المصانع الألمانية، تكفي لطباعة 64 صفحة فى وقت واحد، كما تكفي لطباعة الصفحات الملونة، كما تمكنها من طباعة جريدتين فى آن واحد، وطباعة أعمال تجارية كالكتب مثلا، وكانت جريدة المدينة المنورة أول صحيفة سعودية تطبع الطباعة الملونة على أعلى مستوى، ولم يُخْفِ الحاضرون لحفل الإفتتاح ، وهم يجولون على المطابع بعد انتهاء الحفل الخطابي أن يجدوا صورة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة يرحمه الله، والذي كان قد شرف حفل الإفتتاح، وقص الشريط التقليدي للمناسبة، أن يجدوا صورته وهو يقص الشريط دائرة بها المطبعة العملاقة فى الصفحة الأولى من أول عدد يصدر ليلة الإفتتاح، وظل الزملاء يتساءلون : كيف تم لجهاز التحرير أن يفعل ذلك، ولمّا لم يَمْضِ على قص الشريط 45 دقيقة، ولم يُكشف سّر ذلك إلا بعد سنة من المناسبة.
2 – نجح عهد الشيخ أحمد جمجوم – وهو يقود نقلة جريدة المدينة الحضارية – إلى جانب التجهيزات الطباعية والمبنى ، فى التركيز على البُنيان البشري لجهاز تحرير جريدة المدينة، مع اهتمام خاص بتدريب بعض الشباب من خريجي المدرسة الصناعية الثانوية في المملكة على الأجهزة الكومبيوترية، وحقق فى ذلك نجاحاً، وكان يُسّر عندما يجد هؤلاء الشباب فرصة أفضل في مؤسسات أخرى، فلا يمانع في انتقالهم للعمل، لنبدأ في تدريب غيرهم.ولم يكن يبخل بالتشجيع المادي والأدبي على منسوبي التحرير في المدينة، فكان يعين الشباب القادرين في أرفع المناصب، حتى دون أن يعرفهم، فيكفي أن يجد المبررات المقنعة حتى يتخذ قراراً بتعيين مديري التحرير، ومديري المكاتب، حيث حرص يرحمه الله على تقوية مصادر المعلومات الصحفية للجريدة، فوضع نواة مركزٍ للمعلومات، وكان يشجع التوسع في افتتاح المكاتب داخل المملكة وخارجها، وتعيين الأكفاء من سعوديين ومتعاقدين من غيرهم، فاجتمع بفضل هذه السياسة الحكيمة والمرنة للجريدة ما لم يجتمع لغيرها، فكانت الأخبار المتميزة، والتعليقات الرصينة تنقلها عن جريدة المدينة وكالات الأنباء، والإذاعات الأجنبية، حتى َصنّفت إحدى مؤسسات الرصد الأوروبية جريدة "المدينة المنورة" يومها كأكثر جريدة مصدرٍ لنقل الأخبار من وكالات الأنباء والإذاعات الدولية.وتشرفتُ خلال فترة قيادة الشيخ أحمد جمجوم بزمالة العديد من إخواني السعوديين، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: سباعي أحمد عثمان، عبد الله الجفري، عبد الله العباسي، علي محمد حسون، علي خالد الغامدي، إبراهيم الدعيلج، عبد الرحمن محمد الأنصاري، محمد صادق دياب، يحيى باجنيد، جبير المليحان، عبد العزيز شرقي، محمد علي مصلي، سليم هلابي، فلاح الجهني، ناصر الجهني، أحمد صادق دياب، محمد الفايدي، ثامر الميمان، محمد عبد الواحد، عبد الله رواس، سعد محارب الحربي، حسن سلطان المازني، سليم حامد، أحمد كامل الظاهري، عبد الله الخطابي، حسن باخشوين، خالد تاج سلامة، محمد عبده النوساني، عبد الله الحرازي ، رزقان العبدلي، وتركي العسيري وسعيد الأسمري، ومن السيدات: نورا الملصي، هناء عبد الملك، سهيلة زين العابدين حماد... وغيرهم وغيرهن.
هذا إضافة إلى عدد من مديرى المكاتب بالمملكة فى مكة المكرمة والمدينة المنورة والرياض والدمام وأبها والباحة وتبوك وينبع والطائف والجوف وبيشة وغيرها، ويعتز الشيخ أحمد جمجوم وأعتز معه بأن تحرير المدينة كان يضم أكبر عدد من المواطنين قبل أن تتجه سياسة الدولة إلى تشجيع السعودة في القطاع الخاص.
ويردف العمل الصحفي الداخلي، جهازاً من المراسلين والمكاتب في خارج المملكة: القاهرة، عمان، بيروت، اليمن، تونس، المغرب، السودان، بون، باريس، لندن، نيويورك، واشنطن ، طوكيو، ومن مهام هذه المكاتب عدا الأخبار والمقابلات الصحفية اليومية، إمداد جميع صفحات التحرير المتخصصة بالجديد في الدين والأدب والتراث والرياضة وغيرها.وكان من كتاب الجريدة الدائمين كوكبة من أصحاب الأقلام المتميزة، منهم على سبيل المثال لا الحصر: أستاذي محمد صلاح الدين الذي بدأ- الفلك يدور – مع تسلمي لرئاسة التحرير، أحمد رحال الشيباني وكان يكتب باسم مستعار : ذيبان الشمري، أديب اليمن الكبير أحمد الشامي، محمد عمر العامودى- أمين عبد المجيد، سامية العمودى، هناء عبد الملك، نورا الملصي، سهيلة زين العابدين حماد، نورا عبد العزيز الخريجى وآخرون .
وكان يرحمه الله يُسّر جدا لأية مبادرة تأتيه من التحرير، فيوفر لها الدعم الفوري، فعندما قرر الزملاء فى التحرير بحث سبل التمايز عن الصحف الشقيقة حيث كان يقال أنها متشابهة، بدأت الجريدة فى إصدار ملاحق أسبوعية: للدين، والأدب، والسياسة، والفن، والتراث، والمرأة والرياضة وغيرها، ولما بدأت صحف أخرى تصدر ملاحق مشابهة، قرر الزملاء العناية بمحتوى هذه الملاحق في العدد اليومي، مما زاد في إثرائه، وإصدار" الأربعاء" الذي لَمّ شمل تلك الملاحق، حيث تعاقب على إدارة تحريره : عبد الله جفري، علي حسون، محمد صادق دياب ، فكانت الجريدة تتميز بهذا الإصدار، الذى خدمت معالجاته وأثرت الساحة الأدبية.وكان يحمل سلاح الجدال بالتي هي أحسن للدفاع عن أطروحات الجريدة التحريرية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، النقاش حول " الحداثة" ودورها، وقيمتها في مجتمعات العرب والمسلمين، ومنها الحوار الموسع الذي تبنته الجريدة لقضية" قيادة المرأة للسيارات "من وجهات دينية واجتماعية، ومنها الحوار الجريء حول " الشورى" والذي ساهم فيه رموز الفكر والأدب في المملكة، والذي تولى إجراؤه خالد تاج سلامة.
وإلى جانب أهمية الكُتّاب والصحفيين والمكاتب الصحفية داخلياً وخارجياً في وصول ما وصلت إليه جريدة المدينة المنورة من عام 1296ه إلى عام 1404ه هذه الروح التي أشاعها الشيخ أحمد جمجوم : روح التفاهم والتجانس والتناغم والتوازن بين كل أقسام المؤسسة، وإرساء العدل في التعاطي، والحرص على صرف الحقوق، وكانت توجيهاته لي باستمرار : إعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، فكنتُ أحرص على أن يأتي الحق لصاحبه، لا أن يذهب للبحث عنه بين مختلف الإدارات.ولما جاءت سنوات الطفرة، وتنافست الصحف تنافساً احتاج إلى ترشيد، نهض الشيخ أحمد جمجوم يرحمه الله بالمهمة، مبادراً إلى اقتراح التنسيق بين مديري عموم المؤسسات الصحفية ورؤساء التحرير، فكانت اجتماعات دورية تُبحث فيها مختلف الأمور التي تخدم الأطراف ولا تؤثر على تنافسهم، وتمخض عن هذه الاجتماعات إنشاء الشركة الوطنية للتوزيع، لتوزيع جميع الصحف السعودية الصادرة عن المؤسسات الصحفية، رأس رحمه الله مجلس إدارتها، من خلال شركة مشتركة بينهم، خفّف إنشاؤها من ازدواجية الأجهزة والتجهيزات، مما تحقق معه ربح إضافي سنوي للمؤسسات، كل حسب توزيعه، إضافة إلى أن هذه الشركة إلى اليوم توزع أرباحاً منتظمة للمؤسسات الصحفية، ولم تفلح محاولات تفكيكها بعدُ.
وكان يرحمه الله يطمح إلى توسيع التعاون بما يخدم تلافي الازدواجية، عن طريق دمج المكاتب الصحفية الخارجية في مكتب واحد، يخدم جميع مراسلي الصحف السعودية، ويوفر على كل صحيفة إيجارا مستقلا، ولو استمر يرحمه الله في مؤسسة المدينة للصحافة – كمسؤل أول - لكان حقق شيئا في هذا المجال، ومثله في المكاتب الداخلية، وكان يشغله كيف يمكن تعاون المؤسسات الصحفية في تحقيق حصتها الحقيقية من الإعلان الدولي الموجه للقارىء السعودي، فعسى الله أن يعوض المؤسسات الصحفية خيرا، ويلهم القائمين عليها تحقيق المزيد من التعاون بما يخدم مصالحهم المشتركة.
وهكذا ودعنا معالي الشيخ أحمد جمجوم يرحمه الله، فودعنا رجل الفضل والإحسان ، رجل المبادرات، رجل الإخلاص، والجد، والتواضع، رجل الكرم، رجل الصفاء، والنقاء، والخير .
وإن ذُكِر المجد ألْفيْتَه تأزّرَ بالمجد ثم ارتدى
رحمه الله رحمة واسعة، وألهم ذويه ومحبيه صبرا جميلا، وعوض جميع محبيه خيرا، وأجار ذويه فى مصابهم" إنا لله وإنا إليه راجعون"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.