لا أعرف كم هم الذين خلقوا ليقودوا فيؤسسوا دولا ويرسخوا بنيانها ويضعوا أسس استقرار تضمن استمرارها على النهج ذاته الذي أسسوها عليه، فتحقق النماء والرفاه والعيش الكريم لأهلها، وتسهم في خير البشرية وأمن العالم وسلامته وتصالحه مع مختلف شعوبه. أجل .. لا أعرف كم هم أولئك الذين خلقوا لتلك الغاية النبيلة والرسالة السامية الكريمة، غير أنني متأكد إلى درجة اليقين أن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود (طيب الله ثراه) كان أحد أولئك، بل قل أحد أهمهم وأبرزهم وأكثرهم نجاحا ورسوخا في ذاكرة الشعوب، كما يؤكد كل من عرفه عن قرب وأدهشه حسن صنيعه فكتب عنه، ففي الجانب الاقتصادي فبكل تأكيد دخل البلاد تضاعف مرات عدة بعد اكتشاف النفط والغاز الطبيعي والذهب، وتحسن مستوى المعيشة كثيرا، وتغيرت حياة الناس، فاستشعروا نعمة الله عليهم. لكن عبدالعزيز الساعي إلى العلياء دوما لم يكن يقنع بما يمكن أن يحققه، إذ كان يحمل نفسه دائما على عمل كل ما هو مطلوب، مهما كانت الصعاب والتحديات. فكانت يد تنقب عن النفط، وأخرى تبحث عن الماء، وثالثة تسعى إلى تحقيق الأمن الغذائي، فاتجهت أنظاره إلى الخرج التي تعد من أغنى مناطق الجزيرة العربية بثرواتها الطبيعية، إذ تتوافر فيها شروط الاستقرار من مياه وفيرة وأودية خصبة كثيرة وأرض واسعة منبسطة، إضافة إلى جودة مراعيها وقربها من الرياض العاصمة. ولم تكن أهمية منطقة الخرج الاقتصادية التي كانت حاضرة دائما في تفكير آل سعود، تغيب عن ذهن المؤسس، الذي تأمل تاريخ أسلافه جيدا فعزز مواضع النجاح وتجنب كل أسباب الفشل. يضاف إلى ذلك أن علاقة أهل الخرج بآل سعود راسخة منذ قيام الدولة السعودية الأولى، وقد ارتكزت أساسا على الولاء للدعوة الإصلاحية السلفية، وسوف يأتي الحديث عنها إن شاء الله عندما نتطرق للجانب الاستراتيجي في شخصية المؤسس. كانت الزراعة في منطقة الخرج قبل عهد الملك عبدالعزيز تقوم على الطرق التقليدية القديمة، فيما عدا سيوح العيون والمياه الجارية التي استغلت على مساحات كبيرة، وانحصرت الطرق القديمة تلك في حفرالآبار، واستخدام الدواب في نزح المياه منها لري مساحات تكبر أو تصغر طبقا لقدرة المزارع ومدى إمكاناته المادية والذاتية، كما اقتصرت الزراعة على النخيل والقمح والحبوب كالدخن والشعير والأعلاف، ولم تكن العلاقة بين الدولة والمزارع تتعدى تحصيل الزكاة والحماية. وعندما جاء الملك عبدالعزيز واستتب له الأمن استأثرت الزراعة بكثير من اهتمامه وتفكيره، فأنشأ عام 1454ه (1935م) في الخرج مصلحة الخرج والمكائن للإشراف على المشاريع الحكومية التي عزم على إقامتها هناك. وأمر معتمديه في مصر والعراق باستقطاب مهندسين زراعيين لتطوير الزراعة في المملكة، فقدمت إلى البلاد أول بعثة زراعية من العراق عام 1353ه (1934م) حققت إنجازات كثيرة، لا سيما في مجال الري، واتساع رقعة الزراعة، وغرس أشجار النخيل والفاكهة، ثم غادرت البلاد عام 1356ه (1937م) لتعقبها عام 1361ه (1942م) بعثة فنية زراعية مصرية، قدم لها المؤسس كل التسهيلات اللازمة لنجاح مهمتها، وبالفعل حققت نجاحات كثيرة أهمها زيادة رقعة المساحة المزروعة، تنظيم الري، إدخال مزروعات جديدة، تعليم الطلاب السعوديين شؤون الزراعة وتدريبهم عليها وإنشاء الطرق وغير ذلك. ولأن عبدالعزيز كما أكدت من قبل يسعى دائما للأفضل والمزيد لخير شعبه غادرت البعثة المصرية عام 1365ه (1945م). فقرر الاستعانة بتقنيات جديدة لزيادة الإنتاج الزراعي والحيواني، فاستقدام بعثة زراعية أمريكية جديدة لزيادة الإنتاج الزراعي والحيواني، فاستقدم بعثة زراعية أمريكية في العام نفسه الذي جاءت فيه البعثة الزراعية المصرية 1361ه (1942م) عززت عام 1366ه (1946م) بفريق متخصص في الري والزراعة، تلا ذلك بعثات زراعية أمريكية أخرى. وهكذا تضافرت الجهود إلى أن أسندت إدارة مشروع الخرج الزراعي وتشغيله لشركة أرامكو عام 1366ه (1946م). فقدمت أعمالا جليلة لتطويره والنهوض به، وكان لتلك الجهود أثر مهم في المجالات الزراعية والاقتصادية والاجتماعية، إذ ساعد كثيرا في توطين البدو، واستقرار العلاقات الاجتماعية، وتعزيز الروابط، وتوثيق الصلات، ومدت الطرق، ونشطت التجارة وتحسنت الخدمات، واستحدثت وظائف عديدة، وظهرت فرص عمل في مختلف المجالات للكوادر السعودية التي تم الاعتماد عليها في المشروع، وتضاعفت الثروة الحيوانية من إبل وخيل وأغنام، وقد كان نجاح مشروع الخرج الزراعي أهم عوامل تعزيز الصداقة والشراكة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدةالأمريكية. أما وقد استتب الأمن واستقرت الأوضاع وأجرى الله الخير مدرارا لأهل هذه البلاد على يدي مؤسسها المصلح الكبير عبدالعزيز آل سعود اهتم البطل بتأسيس الوزارات وألحق بكل وزارة مجموعة من الإدارات المعنية بخدمة الوطن والمواطن، واختار لكل وزارة أو إدارة أكفأ الناس وأعرفهم وأقدرهم على البذل والعطاء، وأحرصهم على ازدهار مسيرة الخير. أجل .. فاض الخير ووسع الله الرزق بمنحة من السماء تخرج من باطن الأرض، فدار دولاب الدولة، وعمل عشرات الألوف من أهل البادية في مختلف أعمال الشركات والمشاريع، ودعى الشباب للتجنيد، وأقبل كثيرون على المدن عمالا ومكتسبون، وخصت كل قبيلة بمقادير من العيش الذي يعرفه الآخرون ب (الأرز)، وعندما حلت الأزمة العالمية الطاحنة بسبب الحرب العالمية الثانية أرسل عبدالعزيز أطنان البر لتوزع على أهل البادية، وعملت الأفران في المدن طيلة مدة الحرب، فحصل عشرات الآلاف من المواطنين في مكةوجدة والمدينة والرياض وغيرها من حضر وبادية على خبزهم دونما أدنى معاناة، وكفى الله الناس شر الجوع بلطفه وفضله وصدق نية عبده الصالح .. عبدالعزيز آل سعود. وبعد: ليس هذا في الحقيقة جردة حساب كما يقولون، كل ما يتعلق بالجانب الاقتصادي في شخصية المؤسس، لكنها على كل حال، إضاءة سريعة على أهم المحطات في هذا الجانب، ومن أراد أن يعرف مدى نعمة الله علينا، ثم فضل عبدالعزيز آل سعود فيما ننعم به اليوم من خير وأمن وأمان، ليتذكر أن أول ميزانية رسمية ثابتة للدولة السعودية كانت عام 1353ه (1934م) بلغت نفقاتها 14 مليون ريال، وقدرت وإيراداتها بمثل ذلك .. واليوم، كانت آخر ميزانية أعلنت لهذا العام 1433ه (2012م) 580 مليار ريال، أي أعلى ميزانية في تاريخ الدولة السعودية على الإطلاق، وقد تحقق هذا بفضل الله ثم بفضل عبدالعزيز الذي أسس هذا الوطن، ورسخ بنيانه، وحدد أساس استقراره، الذي يضمن استمراره على النهج ذاته الذي أسسه عليه. فرحم الله عبدالعزيز وجزاه الله عنا وعن العرب والمسلمين والناس أجمعين خير الجزاء، ووفقنا جميعا للسير على خطاه، للعمل بيد رجل واحد مع قيادتنا الرشيدة من أبنائه الكرام لخير هذا الوطن الشامخ الكبير شموخ مؤسسه وأبنائه من بعده .. وكل عام والوطن وأهله في خير وأمن وسلام.