خارج العمارة صوت الرصاص والقذائف والدانات مطبق بمخالبه على حي الحصبة في قلب مدينة صنعاء... الحي الذي أصبح مأوى للأشباح في الليل، ولصرير الريح وأصوات المدافع والبنادق في النهار. نزح بعض سكانها وأغلب سكان الحي لينجوا بأرواحهم فمنازلهم القريبة من منزل الشيخ أصبح موقعها أكثر خطورة من غيرها... القبائل جاءت من كل حدب وصوب لتناصر الشيخ، لتقف إلى جوار الشيخ، لتقتل وتسرق وتنهب باسم الشيخ... لم يهتم الشيخ ومناصريه بأهل الحي، ولم تهتم الدولة بجيشها بأمر أهل الحي... ربما اعتقدوا أنهم حشرات ضارة، تماما كما اعتبرهم الشيخ حيوانات سيهشها مناصريه الأجلاف من الحي ببنادقهم. المهم أن يدافع الشيخ عن كرامته التي أهانتها الحكومة عندما صعد بعض الجنود المسلحين لعمارة مطلة على بيت الشيخ في محاولة للاعتداء عليه، والأهم أن تثأر الحكومة لسمعتها التي أفرط الشيخ وجنوده بأسلحتهم الخفيفة والثقيلة في إهانتها بإطلاق الرصاص على الجنود أعلى تلك العمارة اللعينة ليحمي نفسه من غدرهم... عائلة شهد لم تجد بيتا تأوي إليه كغيرها، ولم تجد مالا لتنفذ بجلدها وتستأجره. فضلت البقاء والعيش في ممر الشقة الصغيرة في العمارة التي خرج معظم ساكنيها. شهد لم يفزعها صوت الرصاص بقدر ما أفزعها عدم وجود أصدقائها في باحة الدور لتلعب معهم وعدم قدرتها على النزول للحديقة الصغيرة أمام العمارة ومراجيحها المتواضعة لأطفال الحي. تفهم والدتها بكاءها العنيد المعبر عن سنيها الخمس... تأخذها أمها كلما هدأ صوت الرصاص للنافذة لتريها أن لا صغار يلعبون ولا مراجيح في الحديقة... لا يوجد غير هؤلاء الوحوش برشاشاتهم وأسلحتهم المقيتة... تستسلم شهد وتعود لممر الشقة مع شقيقيها المنهمكين في النوم هروبا من أصوات الرصاص والقذائف وهروبا من انقطاع التيار الكهربائي وانعدام الماء... كل مرة يخرج فيها والدها لشراء متطلباتهم يوقن انه لن يعود، لكنه يعود ويحكي عن أوضاع مأساوية لجثث في الشوارع ومنازل تحترق وناس تفر من منازلها دون اخذ حاجاتها ونهب لمنازل تركها أصحابها طلبا للحياة...كيف يجرؤ الشيخ البليد والحكومة المتعنتة على فعل ذلك بالعباد. أي عدل أو شرع أو منطق لهؤلاء المدعون جميعا... شهد تريد الخروج للعب، لم تستسلم للنوم، ضجرت من ممر الشقة الضيق ولم تعد تصدق والدتها كلما ألقت معها نظرة من نافذة الشقة للحديقة. ملت ألعابها وملت تهدئة أمها لها كلما أجهشت بطفولتها. بين كل عمل من أعمال المنزل تقترب الأم من صغارها و تحذرهم من عدم الاقتراب من النافذة... «أصبح الأمر لا يطاق سنرحل حتى لو نستأجر غرفة صغيرة في مكان آمن»... هكذا قرر والد شهد بعد أن طالت فترة القصف للمنطقة بين الشيخ ومناصريه وبين الجيش الحكومي دون أن يتوصل الشعب لتخمين السبب غير ما تتناقله وسائل الإعلام المتضاربة عن تمرد الشيخ أمام الحكومة!... شهد تنتظر الغد فرحة بمغادرة الشقة كما أخبرتها أمها. أخذت كيسا ووضعت فيه بعض ألعابها ودميتها المفضلة... قالت لشقيقيها إنها ستلعب مع جيرانها الجدد كما كانت تفعل في هذه العمارة. مسكينة يا شهد.. لقد استأجر والدك محلا على الشارع دون حمام على قدر إمكاناته. وتبرع الجيران باستخدام الحمام خاصتهم لحين انتهاء الأزمة... شهد تلعب في الممر وأمها تجهز ما تيسر للخروج، والدها في الأسفل يحاول إيجاد متبرعا لنقلهم خارج حي الحصبة، الأولاد مستعدون وصامتون في ممر الشقة لحين سماع صوت والدهم سامحا لهم بالنزول. شهد بخطواتها الملائكية تغني بفرح وترقص حول نفسها بنشوة. توجهت للنافذة لتلقي نظرة على أصدقائها الذين اختفوا فجأة... تسمع صوت أمها يحذرها بالعودة للممر. الأم تكاد تنهي تجهيزاتها. والثلاثة أولاد في الممر ينتظرون... تغافلهم شهد مجددا وتذهب لتودع حديقتها ومرجيحتها وأصدقائها الغائبون... وابل من الرصاص ينهمر فجأة، انكمش الصغار في الممر يصيحون بشهد لتسرع إليهم... «شهد» «شهد» «شهد» لم تجبهم شهد. باغتتها رصاصة اخترقت زجاج النافذة واستقرت في رأسها الصغير... *قاصة يمنية