لو قرر كل منا القيام بجولة استكشافية في دهاليز الروح التي تسكن جسده، لانبهر بما تحويه تلك المنعطفات من تعطش دائم للبدايات الجديدة، أيا كان شكلها أو طابعها. تلك البدايات التي نخلع فيها الأردية القديمة التي أدفأت أجسادنا لسنوات، ونمحو أخطاءنا بكل ما تخفيه من ظروف وتقلبات قاسية أو جاحدة أو حزينة، دون أن نبقي لها في الذاكرة أي أثر، ثم نعود إلى نقطة الانطلاق من جديد وكأن شيئا لم يكن. ولكن هل البدايات الجديدة في حياتنا متيسرة دوما لتروي ظمأ أرواحنا العطشى؟ ربما الأمر نسبي، لكني أميل إلى الاعتقاد بأن في الحياة بدايات لن تتكرر مهما طال بنا الزمن. فبر الوالدين مثلا يمثل اللبنة الأولى لبناء حياة موفقة في الدنيا والآخرة، لكن وعلى الرغم من ذلك السياج المعرفي والأخلاقي والتربوي الذي أحاطتنا به خبراتنا الدراسية والمجتمعية، إلا أن البعض منا مازال كثير الهفو، ومع فداحة تلك الأخطاء أو الهفوات التي نرتكبها في حق من منحونا ذواتهم مذ أن خلقنا، إلا أننا وبفضل وجودهم الفعلي بيننا ما زلنا نملك المفاتيح لبدايات مشرقة، لكن ماذا عن «نورة» ؟ إنها امرأة في عقدها الخامس، تعيش وحيدة مع عاملتها المنزلية، بعد أن تزوج إخوتها الذكور واستقل كل منهم في منزله مع زوجه وأبناءه. تزوجت ثلاث مرات ولم توفق في أي من زيجاتها، فآثرت الوحدة على تجربة جديدة. كانت «نورة» الأكثر دلالا لدى والدتها بعد أن فقدت والدها في الخامسة عشرة من عمرها. لكن ذلك الدلال كان سبب حسرتها! فوالدتها ماتت كمدا إثر نقاش حاد معها حول ميراث الوالد، ورغبتها في الاستئثار بنصيب الأسد. اليوم وبعد عشرين عاما من وفاة والدتها، تحرص «نورة» على أن تبر بها بأن تدعو لها وتتصدق عنها، لكنها تحلم بأن يعود بها قطار الزمن، لتقف أمامها وتقول: «حاضر يا أمي». أخيرا أقول، قد يكون رمضاننا هذا الأخير مع والدينا، لذا لننطلق حيث البداية. وأعدكم بأن الأمر لن يكلفنا سوى القليل من الذل، نعم الذل أي الرفق والتواضع والرحمة. [email protected]