تشهد المنطقة العربية خلطا شديدا للأوراق وتبادلا للمواقف بين الدول الكبرى والقوى الإقليمية ربما يقود إلى مزيد من التعميق لحالة الاستعصاء في حلحلة الأوضاع في سوريا باتجاه الانفراج. فبعد أن كان حلف شمال الأطلسي يرعد ويزبد للتدخل العسكري العاجل والمكثف في سوريا لإيقاف المذابح التي يرتكبها النظام الطائفي البائس في حق شعبه، فاجأت وزيرة الخارجية الأمريكية السيدة هيلاري كلينتون نظراءها المؤتمرين في المؤتمر الأول لأصدقاء سوريا في فبراير الماضي بتغير جذري في موقف بلادها، وبالتالي موقف الأطلسي الذي لا يساوي شيئا دون أمريكا، من القضية ليرتكز على مبدأ زئير الأسد وفعل ووداعة الحمل، ما حدا بوزير الخارجية الأمير سعود الفيصل للانسحاب من المؤتمر احتجاجا على تغير المواقف. وبمواجهة خيبة الأمل من الموقف الأمريكي، صرحت السيدة كلينتون بأن عدم تأييدها لتسليح المعارضة السورية سببه تخوفها من وقوع الأسلحة في أيدي عناصر القاعدة. وهو تصريح يتطابق تماما مع تصريح سابق لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الذي أحبطت بلاده -بالتحالف مع الصين- كافة مشروعات القرارات التي يمكن أن تحيل القضية السورية للفصل السابع. وما إن التقطت إسرائيل الإشارة بأن هناك تخوفا من القاعدة حتى وجدت الحكومة الإسرائيلية المتطرفة المخرج من حالة الصمت والمراقبة عن كثب التي بدا لأول وهلة ركونها إليها، لترسل وزير دفاعها إيهود باراك على الفور إلى واشنطن لتنسيق المواقف والاتفاق على الدور الذي يمكن لبلاده أن تلعبه في الشأن السوري. وهناك كان باراك واضحا في رغبته التي أبداها أمام وزير الدفاع الأمريكي باستمرار النظام السوري الحالي في السلطة لحين إيجاد البديل المناسب الذي ترضى عنه إسرائيل. وبدأنا نقرأ بعد ذلك في كبريات الصحف الأمريكية تحليلات كثيرة معارضة للتدخل الأمريكي؛ منها أن روسيا تحاول توريط أمريكا للانغماس في مستنقع جديد في الشرق الأوسط، وأن على أمريكا ألا تتدخل إلا في ما يهدد مصالحها بشكل مباشر، ومنها أن السؤال الذي يجب أن يطرح بشأن التدخل الأمريكي يجب أن يكون لماذا؟ وليس متى؟. وكما هو متوقع، فإن تمييع موقف الولاياتالمتحدة أدى بالتالي إلى تمييع موقف الأطلسي من الأحداث لتتحول المواقف إلى مجرد خطب رنانة ورحلات مكوكية لمبعوث دولي تجاوزه الزمن وبعض المراقبين الدوليين الذين يحتمون من القصف والمذابح، كما هو حال المواطنين السوريين مع الفارق بأن هؤلاء المراقبين يحتمون بفنادق فاخرة تحت حماية الشبيحة، أما السوريون فيحاولون الاحتماء تحت أنقاض بيوتهم المهدمة فوق رؤوسهم. وفي مقابل رعود العرب والأطلسي وبروقهم التي لا تمطر، كانت السفن الروسية تصل تباعا إلى ميناء اللاذقية وطرطوس التي تنغرس فيها القاعدة العسكرية الروسية الوحيدة على اليابسة جنوب المتوسط محملة بأسلحة نوعية متقدمة وعتاد وذخائر ومدربين لتحويل بنية الجيش السوري من جيش قتالي إلى مجموعات قتالية مجهزة لحرب العصابات مستفيدة من خبرات وتجارب الجيش الروسي في سحق ثورة القوقاز. وكان يمكن للأمور أن تستمر على هذا النحو لولا إسقاط طائرة استطلاع تركية يوم 22 يونيو الماضي بصاروخ سام 22 متطور يقال بأنه جزء من منظومة دفاع جوي يشغلها روس في سوريا ولا تتوفر حتى لإيران والصين، لتتسارع الأحداث وتبدأ تركيا في إطلاق صيحات التهديد والوعيد والاستنجاد بالأطلسي ولكن زيارة سريعة من الرئيس الروسي بوتين قيل إنها كانت مرتبة منذ زمن لإسرائيل أسهمت في تغير لهجة تركيا والأطلسي مرة أخرى، وليتضح أن إسرائيل في قلب المسألة وأن مواقفها تتطابق تماما مع المواقف الروسية. فوجود روسيا في طرطوس لا يؤرقها وهي القوة النووية والعسكرية المتطورة، بل إن هذا الوجود يسهم في خلق نوع من التوازن يحفظ لإسرائيل موقعا وسيطا متميزا يمكنها من ابتزاز مختلف الأطراف خاصة في ضوء تصاعد المد السني المعادي لإسرائيل في مصر والمنطقة العربية. كما أن التحالف مع روسيا في الشأن السوري حسب مبدأ «الصديق وقت الضيق» سيجبر روسيا على المقايضة بموقفها من إيران وربما السماح للإسرائيليين بضربها انطلاقا من أذربيجان التي تشهد تواجدا عسكريا إسرائيليا مكثفا يتعايش معه الروس منذ سنين دون أدنى شعور بالقلق أو التهديد. وعلى الجبهة السياسية حاول المبعوث الدولي كوفي عنان أن ينقذ مهمته في سوريا التي تشكل بالنسبة له مصدر رزق لم يكن متوقعا في هذا العمر فدعا لمؤتمر للدول الكبرى في جنيف أشاع بأنه لإعداد خارطة طريق لمرحلة ما بعد بشار. وبالفعل تم عقد المؤتمر يومي الخميس والجمعة الماضيين لتعلن نتائجه مخيبة للآمال بإسقاط الإشارة لبشار والحديث عن حكومة انتقالية لا تستبعد عناصر النظام المجرم من تشكيلها.. وفي المؤتمرات الصحفية التي تبعت انفضاض الجمع تجاهل عنان الحديث عن بشار، وحينما سئل سؤالا مباشرا عن الاتفاق على إنهاء حكمه أجاب «آسف.. أنا لا أعرف شيئا عن هذا». وبعده ظهرت السيدة كلينتون في مؤتمرها الصحفي متوترة لتعلن أن على بشار أن يرحل لأن يديه مخضبتان بالدماء ولكنها تجاهلت الإجابة على الأسئلة المباشرة. وبعدها ظهر لافروف ليستعرض انتصار بلاده أمام العالم بأن الأوضاع باقية على ما هي عليه وأن بلاده نجحت في الإبقاء على بشار ونظامه وأن على المعارضة المسلحة أن تلقي السلاح وتلجأ للحوار ليسمح لها بالمشاركة في الحكومة الانتقالية. إذن، لم يكن هدف المؤتمر إيجاد حل يوقف المذابح في سوريا بل صرف الانتباه عن حادثة إسقاط الطائرة التركية وتخفيف الاحتقان بين الأطلسي وروسيا والتسليم لها بنفوذ كامل في سوريا بدليل زيارة السيدة كلينتون لروسيا عشية المؤتمر وإعلانها عن الامتناع عن الحضور إذا لم يتم الاتفاق المسبق على حل جذري للمسالة ولكنها حضرت دون جدوى، وبدليل تصعيد هجمات النظام المجرم على المواطنين بعد المؤتمر وارتكابه المزيد من المجازر بالأسلحة الروسية المتطورة. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة