لا تقتصر الثقافة في دلالتها العميقة على المعرفة النظرية وحدها بل يتسع مفهومها ليشتمل على السلوك وأنماط العيش والمأكل والملبس والعمران وكافة الطرائق المتصلة بحياة الجماعة وحضورها في العالم. هكذا لا يتحدد دور المثقف في المجتمعات الحديثة بحجم الكتب التي قرأها والمهارات التي يتقنها فحسب بل بقدرته على توظيف معارفه ومهاراته في عملية التغيير أو في تقويم الإعوجاج الناجم عن غياب العدالة أو اهتراء القيم. ومن يعود إلى «لسان العرب» سيلفته اقتران الثقافة بالمعرفة والحذق من جهة وبتسوية الخلل وتقويم الاعوجاج من جهة أخرى. فالرجل المثقف هو الحاذق الفهيم، كما ينسب ابن منظور إلى عائشة أم المؤمنين قولها في وصف الرسول الأكرم بأنه «أقام أوده بثقافه» وتعني أنه سوَّى اعوجاج المسلمين. لم يذهب المفكرون الكبار بعيداً عن هذا المفهوم حين اعتبروا أن المثقف لا يشبه البئر المغلق على نفسه بل هو أقرب إلى النهر الذي ينهل مياهه من روافد شديدة الخصوصية ولكنه يصب في محيط الإنسانية الواسع. وسواء أخذنا مع انطونيو غرامتي بنظرية المثقف العضوي، أو ذهبنا مع جوليان بندا إلى اعتبار أن المثقف الحق هو الذي يتحلى بالموهبة الاستثنائية وبالحس الأخلاقي الفذ، أو شاطرنا جان بول سارتر رؤيته إلى الأدب الملتزم والإبداع غير المجاني فإن ما يجمع بين هذه الأطروحات المتعددة هو أن ريادة المثقفين لا تنحصر في النصوص المبدعة وحدها بل في مناهضة الطغيان والوقوف إلى جانب المستضعفين والمنافحين عن الحرية. إن بعض الذين ذهبوا إلى اعتبار المثقف مجرد منتج حيادي للمعرفة شبيه بما يفعله التقنيون وأهل المهن الأخرى لا يهدفون إلى تعطيل الدور الريادي الخطير للمثقفين فحسب بل إلى تسويغ تقاعسهم عن نصرة قضايا شعوبهم العادلة وتبرير جنوحهم إلى محاباة الواقع القائم وتزيينه بورود الكذب والتملق. وإذا كان ثمة من علاقة قائمة بين المثقف والسلطة فلا يجب أن تقوم على التبعية والالتحاق الأعميين بل على نقد هذه الأخيرة: «وقول الحق في وجهها» وفق تعبير إدوارد سعيد في كتابه المميز «صور المثقف»، وهو أشد ما نحتاج إليه في هذا الزمن العربي المفصلي والحافل بالوعود كما بالصدوع والعثرات.