كانت آخر إصابة بوباء الجدري في 26 أكتوبر عام 1977م، وبعدها اختفى هذا الوباء من على الأرض بسبب برنامج التطعيم العالمي بلقاح الجدري «فاكسينيا». قبل ذلك بعشر سنوات فقط أي في عام 1967م، وهو العام الذي بدأت فيه منظمة الصحة العالمية البرنامج المكثف لاستئصال المرض كان عدد حالات الجدري في العالم يفوق عشرة ملايين حالة سنويا في 31 دولة وكان المرض يهدد 60% من سكان العالم ويقتل ربع ضحاياه تقريبا. ويعتقد أن تاريخ الجدري يمتد على مدى ستة آلاف سنة أو أكثر من تاريخ البشرية. وفي آخر 100 عام من تاريخه قتل هذا الوباء حوالى نصف مليار شخص أي أضعاف ما قتلته جميع الحروب مجتمعة، كما سبب حالات لا تحصى من العمى والمضاعفات الأخرى التي ليس أقلها الندوب الدائمة التي تشوه أوجه المصابين. لا عجب إذن أن يعتبر استئصال هذا الوباء من أعظم الإنجازات الطبية على الإطلاق. ولكن على الرغم من الاستئصال التام للمرض لايزال فيروس الجدري حتى يومنا هذا يقبع مجمدا في ثلاجات مركز مكافحة الأمراض الأمريكي في مدينة أتلانتا ومعهد البحوث الروسي للمستحضرات الفيروسية في موسكو. فما هو سبب الاحتفاظ بهذا الفيروس الخطير؟.. سمعت الكثير من النقاش حول هذا الموضوع ومن ذلك وجهة النظر السابقة لبعض العلماء في أهمية الاحتفاظ بالفيروس للدراسات العلمية، وهو ما انتفت الحاجة إليه بعد أن تمت قراءة الخريطة الوراثية للفيروس بالكامل وأصبح من الممكن إعادة تركيب أي مكون من مكوناته في حالة الضرورة، كما أن هناك عدة فيروسات شبيهة يمكن دراستها، منها فيروس اللقاح «فاكسينيا» نفسه. كنت أجد صعوبة في فهم السبب الحقيقي للتلكؤ في التخلص من فيروس الجدري المرعب من قبل هاتين الدولتين الكبريين، خاصة في ضوء توصيات منظمة الصحة العالمية والعديد من الهيئات العلمية المرموقة التي حثت على التخلص الكامل من هذا الفيروس. وجدت الإجابة في الكتاب الممتع : «الجدري موت وباء» الذي صدر مؤخرا لدونالد هندرسون الذي رأس برنامج منظمة الصحة العالمية المشار إليه أعلاه للقضاء على الجدري، أن السبب الحقيقي لتردد الولاياتالمتحدةالأمريكية في التخلص من الفيروس، وفقا لهندرسون، هو اكتشافها للتخطيط الذي كانت تقوم به روسيا الشيوعية لاستعماله كسلاح بيولوجي حيث وضعه الروس على رأس قائمة الأسلحة البيولوجية الممكن استخدامها. فضح العلماء السوفييت الذين فروا إلى الولاياتالمتحدة تفاصيل هذا التخطيط الذي كان يجري العمل عليه رغم معاهدة حظر استخدام الأسلحة البيولوجية التي وقعتها كافة دول العالم، بما فيها روسيا، عام 1972م. وعندما جاءت أحداث 11 سبتمبر عام 2001م، وتبعتها حادثة إرسال الرسائل المحتوية على بكتيريا الجمرة الخبيثة بواسطة عالم أمريكي والتي أودت بحياة خمسة أشخاص في أمريكا، رجع وباء الجدري إلى الضوء، وثارت الشائعات عن احتمال وجود الفيروس لدى جهات أخرى، مثل حكومة صدام حسين في العراق، مما حدا بالرئيس الأمريكي جورج بوش إلى تخصيص 3 مليار دولار لإنتاج ملايين الجرعات من لقاح الجدري لتطعيم كافة أفراد الشعب الأمريكي استعدادا لأي هجوم محتمل. كما تم تطعيم أكثر من نصف مليون جندي ممن شاركوا في حرب العراق. طبعا تبين لاحقا عدم وجود أي برنامج في العراق لاستخدام الجدري كسلاح. كذلك رفض الشعب الأمريكي آنذاك فكرة التطعيم الموسع ضد وباء تم استئصاله. وهكذا فشلت حملة التطعيم تلك فشلا ذريعا. اليوم لم تعد روسيا مصدر قلق للولايات المتحدة مثلما كانت. ولم يعد صدام مصدر تخويف لها.. ولكن تبقى الأسئلة التالية: هل لازالت هناك جهات أو جماعات أخرى تخبئ فيروس الجدري وتفكر في استعماله كسلاح؟. هل تعيد أمريكا وروسيا النظر في الاحتفاظ بهذا الفيروس القاتل؟. هل ستتمكن البشرية يوما ما من التخلص منه إلى الأبد؟. وأخيرا: إلى متى يبقى الإنسان عدو نفسه؟. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 133 مسافة ثم الرسالة