يسعدني الصديق الوقور الأستاذ عبدالمقصود خوجة بين حين وآخر بالاتصال بي والسؤال عني كعادته مع كل أصدقائه ومحبيه؛ لأنه يملك صفاء روحيا وأخلاقا عالية وخصائص في التقدير يرتفع بها في وجدان الآخرين إلى درجة كبيرة من الامتنان وذلك حظ الأفذاذ من الرجال الذين يملأون الزمان بسيرة طيبة. وبالمشاعر الإنسانية انتقلنا بالحديث إلى تذكر كثير من المواقف الرجولية لأسماء مشهود لها في الماضي بالكرم والصدق وصنائع المعروف والمواساة بلا منٍ ولا أذى وتلك من الصفات الجميلة التي يتأنق بها الإنسان فيطوق بها أعناق الرجال فلا يغطيها النكران أو يلغيها النسيان.. واستعرضنا في تلك المحاورة الهاتفية أمثلة مختلفة عن الوفاء واستقرار أهله في أعماق النفس بأسمائهم المضيئة التي ما زالت تعيش في الذاكرة إلى هذه المرحلة المتأخرة من العمر؛ لأن شيم وأفعال الكبار تدوم في صفحات الوقار والاعتبار. ولأن في تاريخي القديم قوة للانتصار على ظروف وصروف عصر لم تخذلني فيه الإرادة لمقاومتهما بالممكنات الميسورة ومخاطبة أصحاب الفضل ونخوتهم للتخلص من مضاعفات المعاناة حين جاءت المشورة بالكتابة للمرحوم محمد سرور الصبان بعد دراستي الابتدائية وعلمي بأن والدي قبل موته في طفولتي كانت تربطه به صداقة حميمة. فكتبت إليه رسالة لم أتمكن من تسليمها بيده شخصيا ولكنني أعطيتها لأحد العاملين في بيته لإيصالها إليه إلى أن فوجئت ذات يوم بالمرحوم محمد سالم غلام سكرتيره الخاص يسأل عني ويخبرني برغبة الشيخ محمد مقابلته في مكتبه بجدة قريبا واستعديت لذلك الميعاد وتلك المقابلة بما يليق بمكانته فأمر بتعييني في مكتبه وإقامتي في دار الضيافة بجدة لخوفه علي من مخاطر الطريق ومن صعوبة الصعود إلى مكةالمكرمة والعودة منها، كما أمر بتخصيص مرتب لأسرتي يصل إليها في نهاية كل شهر بواسطة مكتبه هناك. وفي اليوم نفسه الذي باشرت عملي في مكتبه صدرت الإرادة الملكية بتعيينه وزيرا للمالية إضافة إلى وظيفته كمشرف عام على الحج والإذاعة واستدعاني بهذه المناسبة ليمنحني عطاء سخيا فرحت به وشكرته عليه. ومن يومها استبشرت بحياة تفاعلت معها بالجد والمثابرة والتسبيح بحمد الله.. وبعدها بسنوات انتقلت خدماتي إلى وزارة الداخلية في مكةالمكرمة ثم الرياض حينما كان وزيرها صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله الفيصل يرحمه الله ويعمل بأمره المرحوم محمد حابس وحسين عرب كنائبين له. واعتزازي بتلك المثاليات وبمراحل عملي تعلمت منها كيف يكون الانتصار على الضعف وقيمة التعامل الآدمي الذي يرفض التنصل عن الأصول والالتزام بحسن الأدب وأداء الواجب بخير ما يكون. والآن وبعد مضي أكثر من نصف قرن على بدايتي الوظيفية دائما ما أردد في ضميري وعلى لساني دعاء في جوار هذا البيت العتيق بأن يمن على كل من أحسن إلي بجزيل رحمته وكريم عفوه وأن ينزلهم منزلا كريما مع الصديقين والأبرار والشهداء إن شاء جلت قدرته وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. وتتوارد على خاطري أسئلة متعددة عن القيم والأخلاق وكيف تتوارثها الأجيال فتتمجد ذكراهم بعدهم كفرحة زفاف أبدي اسمه «المعروف» وأنه الميراث الذي لا تحصيه الأقلام ولا تهمله ولا تأكله النار. والمعروف اقتدار نفوس نقية ينفق منه أهله ولا يمكن أن يستعار لغرض يتسلط فيه المرء من أجل غرض دنيء وغاية رخيصة وإسقاطه من أهل الجحود لأنه لا يصدر إلا من أصحابه.. أما من يفسره بأسراره الخاصة فذلك لانحصار شعور الإنسان فيما سواه وانشغاله بإلغاء لغة الحب في عالمه الخاص به والمنافسة على فرض مكانة مرموقة لا تتسع لذات مصابة بالنقص ولا تتعامل إلا بأسلوبها ورؤيتها لكل صورة جميلة في شكل قبيح. وتذكر أهل الفضل هو الذي يحلق بنا فوق امتداد الزمن فتتألق النفس بحكمتها ونضوجها والاقتراب من الصواب ومعرفة جوهره برفض الطموحات المرهقة ومصائب العداوة والبغضاء والعقوق والغدر والغيرة والاتجاه لضده من خلال منافذ حرجة.. هذا هو المنطق الصريح لانضباط النفس والحذر من انفلاتها ليستطيع العاقل أسوة بمن قبله وقدوة لمن بعده وهنيئا لنا هذا البوح عن المواقف الجليلة لنبكي على الموتى بسخاء عيوننا ونخاطب ضمائرنا بالطهر والنقاء. أما أدب الصبان ومعروفه ومروءته وفضله فكلها تمثل قصيدة منغومة ترددها المدن الفاضلة في كل حين فيا أيها الشجو والجوى هل إذا وثب الردى أن أجد بعد المنية صاحبا يتذكر؟