إتماما للمقال السابق أقول: إن اهتمام المثقفين والمفكرين ومسؤولي الحوار الوطني (وهم للحق قدوات وقدرات رائدة) ينبغي أن ينصب على خلق بيئة لحوار الذات وأن يرفع شعار (نحن ونحن) في المفهوم التحاوري ليخلق منا مجتمعا مقتنعا بقبول ذاته قبل قبول الآخر، ويسعى إلى إيجاد أرضية تحاورية تسهم في توسيع المساحات في صدور أجيالنا ومجتمعنا بكل فئاته، فإيجاد منهجية تربوية لقبول وجهات النظر المتعددة بات أمرا ضروريا في مجتمع بدأ استجابة لما لقيه في هذا العهد الزاهر من الحرية في طرح استفهاماته المتعددة غير أنه يصطدم بفقدان ما يمكنه من أن تتعامل كل أطيافه وشرائحه مع بعضها بروح القبول والاحترام المتبادل والإصغاء لوجهات النظر مهما شطت عن المألوف من غير أحكام مسبقة، ومن غير اغترار بالذات يلغي ما عداها. من هنا فقد كنا وما زلنا ننتظر من الحوار الوطني وهو على مشارف إتمام عقده الأول أن يهتم بإيقاظ عقليات المجتمع (المخمورة) بتبرئة النفس من القصور، وأن يغرس في عقول الأجيال تطبيقا عمليا لجهود الأعوام الماضية، بدلا من الاستمرار في عقد اللقاءات السنوية التي تحولت إلى ما يشبه المؤتمرات، نسمع جعجعتها ولا نرى لها طحنا، فأجيالنا يا مسؤولي الحوار غير قادرين على إدارة وثقافة حواراتنا مع ذواتنا فضلا عن أن يكونوا رسلا للمستقبل في حواراتنا مع غيرنا؛ لأن ثقافتنا مهيكلة على التقليد، وعقليتنا مجبولة على تمجيد الذات، وتربيتنا تدفعنا إلى الدفاع عما نقتنع به بالحق أو بالباطل؛ مما يستدعي أن نسارع بإدخالنا (نحن) في مصحات تربوية نتعلم فيها ونعلم أجيالها أن الحوار ليس مجرد ملتقى سنوي يعقد لأيام معدودة وتلتقط فيه الصور التذكارية ولكنه عمل دؤوب، ومسؤولية ضخمة لصياغة جيل، وتربية مجتمع، وتغيير تفكير وثقافة تتطلبها مرحلة الانفتاح العالمي وحقيقة القرية الكونية التي لم نعد قادرين معها على ستر عيوبنا. ولتسمحوا لي أيها العلماء الموقرون وأصحاب المعالي الذين تتسنمون قيادة مركز الحوار الوطني أن أضع أمام أنظاركم أسئلة أراها مشروعة فاقبلوها مني من منطلق الحوار ملخصها: ما مخرجات هذا المركز الرائد بعد تسع سنوات عمل؟ لماذا لم تنعكس معالم جهودكم على تربية أجيالنا تطبيقا عمليا؟ هل ما نراه من سلوكيات وما نشاهده في القنوات من صراخ وشتائم أمر طارئ على مجتمعنا، كما جرت عادتنا دائما؟ وهل التغريدات المخلة بالآداب والثوابت جاءت نتيجة لفقدان مساحات الحوار الحر؟ وإذا كان الأمر كذلك لماذا لم يخلقه مركزنا الموقر؟ هل قدمتم خطة لمعاقل التربية ومنابر التوجيه في المجتمع؟ هل ما قرأتم وسمعتم عن ملتقيات المثقفين وأنتم منهم يرسم صورة صحيحة للحوار المأمول؟ ما رأيكم في القنوات التي تشتت الشمل وتعزف على النعرات القبلية؟ ألم توح هذه الإرهاصات بأننا نحتاج إلى تحويل مخرجات ملتقاكم السنوي إلى تطبيق سلوكي يسهم في قتل جرثومة الأنا التي تشل الإرادة عن اتخاذ الموقف الصحيح؟ اسمحوا لي أصحاب الفضيلة والمعالي ومنزلتكم عندي عالية؛ لأنكم خدمتم الوطن دهورا وبنيتم معاقل التربية والتعليم عصورا ولكن مرحلة اليوم غير الأمس، فجيلنا مندفع بلا روية والعالم يسير إلى التغير بلا تمهل، ومثقفونا ومفكرونا يرومون الوصول الآخر، ولكن يفتقرون إلى امتلاك آليه الحوار مع بعضهم والتعامل الراقي فيما بينهم، فأنتم ومركزنا (مركز الحوار الوطني) المصحة التي تعالج هشاشتنا، لتروا أن أي حوار يجرى حول موضوع ما بين مواطن ومسؤول على المستوى الرسمي أو بين الأخ وأخيه والزميل وزميله والأستاذ وطلابه والموظف ومديره على المستوى الاجتماعي، ينتهي إلى ارتفاع الصوت، واحمرار الأعين، وانتفاخ الأوداج ثم الوعيد والتهديد، ويضحي القلم في يد كل منهما لا يقطر مدادا للنفع والبناء بل يقطر دما للوقيعة والإقصاء، ويتحول الحوار إلى براكين فوارة تقذف بحممها فتأتي على الأخضر واليابس. رئيس نادي جدة الأدبي [email protected]