إن بنية العلم الكلاسيكي بطبيعتها ترفض فكرة الاختلاف وتؤمن بالتماثل والتطابق والتناظر، والتماثل أو التطابق يقتضي حذف ملامح الاختلاف والإبقاء على العناصر المشتركة بين الأشياء من أجل تصنيفها وتبويبها والبحث عن قوانين كلية تخضعها لها.. قد يكون هذا مقبولا في عالم الأشياء والجمادات (وهي الموضوعات الأثيرة للعلم الكلاسيكي لا العلم الحديث الذي غاص إلى ما وراء حدود الذرة فوجد عالما مغايرا)، ولكنه بالتأكيد ليس مقبولا في عالم الإنسان أو عالم الروح حسب تسمية الفلسفة الألمانية لهذا العلم؛ وهو غير مقبول لأن كل إنسان هو كينونة متفردة ومستقلة وحرة وعصية على الضبط القانوني وعلى التنبؤ العلمي، ومن أجل هذا أخفقت العلوم الإنسانية في محاكاة العلوم الطبيعية في دقتها ووضوحها واعتمادها على الرياضيات.. فلا يمكن بحال إهمال ما يتفرد وما يتميز به الإنسان الفرد عن غيره من الأشياء ومن الناس الآخرين؛ لأن ما يميز الفرد هو في الحقيقة يشكل (ماهيته) وحقيقته. وبعبارة أخرى: إذا كان تطابق وتشابه الأشياء يشكل ماهيتها العلمية ويسهل عملية التقنين ومعرفة أحوال الشيء والتنبؤ بها، فإن اختلاف الفرد عما سواه هو ما يجب أن يركز عليه العلم لكي يصل إلى ماهية الفرد، ومادام العلم يرفض التفرد والاختلاف والتميز فهو عاجز عن مقاربة الإنسان كروح مستقل متفرد، ولا يجد بدا من التعامل معه كشيء مادي أو كموضوع. وعجز العلم الإنساني مرده إلى منهجه الذي يقلد فيه منهج العلوم الطبيعية. وقد قام مارتن هايدجر وتلميذه غادامير برفض فكرة المنهج كليا في مقاربة ما هو إنساني (راجع: الحقيقة والمنهج لغادامير، أو ضد المنهج لبول فيراباندمثلا ) والاعتماد على تقنية التأويل (الهيرمينيوطيقا الأنطولوجية) التي تهدف إلى الإنصات إلى الوجود وفهمه في تفرده وتجليه وتميزه.. في انكشافه ولا تحجبه، ف «التأويل» هو باختصار البديل عن المنهج في العلوم الإنسانية في نظر هؤلاء، ولا حاجة لنا بالمنهج العلمي التجريبي الطبيعي مادمنا لسنا في حاجة إلى (السيطرة) على الإنسان (وإنما فهمه) .. فالعلم كما قال الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون قديما هو قدرة وقوة. إنه سيطرة وتعدٍ واستبداد!!. لقد أدت محاولات تطبيق مناهج العلوم الطبيعية على الحياة الإنسانية إلى إمداد الفكر الآيديولوجي الراغب في السيطرة على الناس كرغبة العلم الطبيعي في السيطرة على الأشياء بالمبررات العلمية والمسوغات العقلانية. لقد استفادت الآيديولوجيات من علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإنثروبولوجيا أكثر مما استفادته من الفيزياء والكيمياء والقنبلة الذرية وأسلحة الدمار الشامل!! والسبب هو في التعامل مع الإنسان كموضوع مطروح للدراسة العلمية والمنهجية.. فالمنهج لا يكشف عن الحقيقة بقدر ما يبرهن على الرؤية المنضوية داخله، إنه رؤية مسبقة فحسب.. رؤية تخص أصحاب المنهج. ولذا كان هدف غادامير هو فك الارتباط بين الحقيقة والمنهج في العلوم الإنسانية. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة