منذ عقود، قدّمت «منظمة الصحة العالمية» تعريفاً جامعاً مانعاً للصحة: «حُسن الحال جسدياً وذهنياً واجتماعياً بصورة تامة، وليس مجرد غياب المرض أو العاهة». ويتوافق هذا مع تعريف البروفسور الفرنسي رينيه لوريش (1879- 1995)، وهو مبتكر المقاربة الشاملة للمريض Holistic Approach، لها بأنها «صمت الأعضاء». إلا أن هذا لا يمنع من القول إن العلم الطبي أنتج خطاباً عيادياً شدّد أكثر على موضوعة المرض والألم، من اهتمامه بحال الصحة الحسنة نفسها. وفي كتابيه «تاريخ الجنون» (1961) و «ولادة العيادة» (1963)، كان ميشال فوكو (1926 – 1984) واحداً من باحثين كثر ناهضوا خطاب المرض هذا، الذي يستبعد الصحة الحسنة ضمنياً، وحاولوا إظهار أخطائه. في سياق متّصل، لاحظ عالم النفس اللبناني الراحل الدكتور عدنان حب الله «سيادة أيديولوجيا طبية متسترة بلباس خطاب علمي، لا تركّز على كون المريض إنساناً حاملاً لمفهوم الإنسانية، إذ دخلت الآلات الطبية وسيطاً في العلاقة بين المريض والطبيب، وتحوّل هذا الأخير موظّفاً في الجسم الطبي». مريض حتى يثبت العكس قبل فترة غير بعيدة، استضاف لبنان مؤتمراً علمياً حمل شعار «كليات الطب في مواجهة مقتضيات الصحة في مطلع القرن الحادي والعشرين». وحذّر المؤتمر من مخاطر انحراف الطب بأثر من عامل التقنية، ملاحظاً أن مفهومي الحياة والموت رُبطا بالتكنولوجيا، على غرار القول إن الموت سريرياً هو توقف صدور موجات كهربائية عن الدماغ، مع توقّف التنفس ونبض القلب. وعلى نحو متزايد، غدت الآلة في مركز الوسيط بين الطبيب والمريض، في حين أن الإنسان بالتعريف، كلٌ متكامل، جسم وروح. مثلاً، لا يمكن للبعد العضوي وحده أن يختصر ظاهرة الألم. وكان أحد علماء الأنتروبولوجيا قد فكّر في نظرة الطب المُعاصر للإنسان، وتبيّن له أن الطب المعاصر صار طباً علاجياً بامتياز، فيما تميّز الطب قديماً بتشديد أكبر على جوانب الوقاية، إذ تمحّور سؤال الطب القديم حول الصحة وتمامها وحُسن حالها، فيما يدور طب اليوم حول المرض، ومن منظاره يرى الإنسان مريضاً إلى أن يثبت العكس! إرث أفلاطون وتوازناته وأكد الفيلسوف الألماني هانز غادامير (1900 -2002) في كتابه «فلسفة الصحة» (باريس، 1998)، أن سلوك الإنسان لحفظ الصحة يفتقد على نحو جلي لأساس علمي متماسك، وبعبارة أخرى، فإن الطابع الخفي للصحة يشير إلى غياب النظر الموضوعي للصحة في الخطاب العلمي. لم يذهب الكتاب عينه، وهو مجموعة محاضرات ألقيت أمام جمع من أطباء ألمان، إلى الاحتجاج على تقدم الطب الحديث. وشدّد أولاً على الطبيعة الفريدة للمعرفة الطبية باعتبارها ما يعطي القدرة على استعادة الصحة وليس فبركة حال من حسن الصحة. بقول آخر، تبدو المعرفة الطبية وكأنها تستبعد كل تحكم تام، ما يجعلها قريبة من السعي لالتقاط توازن يترجح بين عوامل عدة. وثانياً، لاحظ غادامير أن الصحة هي شيء نعرفه، لكننا بطريقة ما، لا ندرك كنهه أيضاً. وفي «فلسفة الصحة»، يذكّر غادامير بما قال به أفلاطون، من أنه لا يمكن شفاء الجسم من دون شفاء النفس، أي من دون الإلمام بطبيعة الكلّ الإنساني. في هذا المعنى، تظهر الصحة كتناغم فريد بين طبيعة الإنسان وحاله من جهة، وبين ما يتهدده فيزيائياً واجتماعياً. ولأن الطب الحديث يتميز بالتخصص، فإنه لا ينجح في تقديم العون المطلوب حين يتعلق الأمر بإضفاء معنى على حياة المرء الفردية في صورتها الشاملة، ولا حتى بوصفه ذاتاً اجتماعية. وبحسب المنهج التأويلي لغادامير، يجدر التفكير بالصحة كشيء يجب إخضاعه للتفسير والحوار والإصغاء. إذ أن الصحة تجربة توازن، في معنى إنساني واسع. وانطلاقاً من هذه النظرة للصحة، فكّر غادامير بأن المرض يشبه تجربة فقدان التوازن، سواء داخل الجسم عضوياً، أم بين الإنسان ومحيطه. بذا، تضحي الصحة تجربة اندراج في كليّة هشّة خاضعة على الدوام لمخاطر افتقاد التوازن والارتباط، مع ملاحظة أن هذه الكلية هي في حركة متواصلة. وكخلاصة، يمكن النظر إلى تجربة التوازن بوصفها مساراً متتابعاً ودينامياً. لا تمتلك الصحة حالاً ثابتة. وكذلك لا يمكن توليدها بإرادة، ولا أن تكون مُنتجاً للاستهلاك. واستطراداً، لا يتمثّل عمل الطبيب في إنتاج الصحة، بل في توفير شروط تتيح عمل الصحة، مع الأخذ في الحسبان وضع المريض كإنسان تكمن سمته الأساسية في كونه شيئاً فريداً. وانطلاقاً من هذا الأساس، يجب على الطبيب تهيئة مناخ من الإصغاء والحوار وعقد صلة رعاية مع المريض- الإنسان، بدل الاقتصار على كتابة الوصفات الطبية. ويبدو هذا قريباً مما طالبت به المفكّرة الإنكليزية فيرجينا هيلد عندما طرحت مقولة «أخلاق العناية». «أعضاء مريضة» في سياق مماثل، أنكر المفكر الإيطالي أمبيرتو غالمبيرتي في كتاب «أسباب الجسم» (باريس، 1998)، الدور الذي يرسمه الطب الحديث للطبيب. ورأى غالمبيرتي أن هذا الدور يجعل الطبيب موظفاً فعلياً للعلم، يتجاهل المُركّب الإنساني كي يصبّ اهتمامه على الجسم العضوي، مُختزلاً المريض في وضعية الجسد الحامل لمرض باثولوجي. وبذا، يُنتزع الطبيب أيضاً من مكانه في المجتمع، ويُحال إلى الوسط التقني، خصوصاً المستشفى، وهو مؤسسة تبدو أنها مُتشكلة من مجموعات متحلقة حول «أعضاء مريضة». يُذكر غالمبيرتي أنه في غابر الأيام وعند الشعوب البدائية التي تحتفي بالجسد، كان للمرض دلالة اجتماعية، بل يمكن تبادله داخل الجماعة. بقول آخر، لم يكن المرض يُعاش فردياً، بل ضمن نظام رمزي، يضفي على كل حدث دلالة تجعل منه صلة اجتماعية غنية. وتشارك الجماعة نفسها في عملية الشفاء من خلال توزيع الأدوار. إذ تتصور الألم كقطع أو نقصان في التبادل الاجتماعي. وبإلغاء هذا المعنى، أصبحت النظرة العيادية هامدة، لا ترى أثر المجتمع في أعراض المرض، بل تفكّر بالأخيرة كواقعة مرضية قد تصيب أياً من الناس وتندرج في خانة «حالة». في سياق متّصل، فكّر الفيلسوف الفرنسي باسكال بروكنير، صاحب كتاب «بؤس الازدهار»، في مسألة الصحة والطب. ورصد سعي الجمهور وراء نوع من «دكتاتورية طبية»، ما جعل من الصحة «هجاساً اجتماعياً». ورأى أيضاً أن الطبيب أصبح توليفة معاصرة لشخصيات قديمة مثل الساحر والكاهن والوسيط الروحي للقبيلة، إذ يُطلب منه قول الحقيقة حول حياة كل فرد، مع إعطاء تعاليم حكيمة. واعتبر بروكنير أن هذا الأمر فيه مغالاة وثقة مفرطة في قدرات الطب على الشفاء، ليس من المرض ولكن مما سمّاه «قلق الحياة»، إذ دفع حب الظهور الاجتماعي بعض الميسورين إلى نمط من الاستهلاك الطبي لتفادي الوقوع في المرض أو لتحسين الأداء والشكل. ففي الولاياتالمتحدة، يلجأ بعض الناس إلى إجراء عمليات في العينين للحصول على رؤية تفوق المعتاد، لأن هذا الأمر مفيد في لعب الغولف! * أستاذ في الجامعة اللبنانية