القيمة التي يحظى بها المثقف في المجتمع العربي، غير تلك القيمة التي يحظى بها الشيخ، فالأول يمكن القول عنه: إنه خارج المنظومة التأثيرية على المجتمع، في حين يبقى الثاني أكثر تجذرا في المجتمع من ناحية تأثير القيمة، فإذا كان المثقف يحاول أن يؤصل لذاته الفكرية داخل المجتمع؛ فإن الشيخ قد حظي بذلك منذ تكوين مفهوم المجتمع الإسلامي، من خلال تداخل الرؤية التقليدية بينه وبين المجتمع لاتصال الشيخ بعمق المكون الثقافي للمجتمع المسلم: (الدين)، فالمنظومة الدينية أوسع من الشيخ، بل لمحاولته الاتصال الايديولوجي بالمنظومة الدينية لما لها من قيمة رمزية في المخيال الجمعي للناس، سواء جاء ذلك بحسن نية ينظر من خلالها الشيخ لنفسه فعلا بأنه ممثل حقيقي للدين ويطرح قراءته التي يظنها القراءة السليمة في تصوره، أو كان برؤية براجماتية تأخذ من الدين قيمته الرمزية، والاستفادة منها لمشروع شخصي أو سياسي، كما تفعل بعض حركات الإسلام السياسي اليوم في أكثر من مكان، مما أوصل بعضها إلى سدة الحكم، والباقي ربما يكون على الطريق. ارتباط المثقف بالعصر والواقع حتى وإن كان ارتباطا ميتافيزيقيا بحسب تصور نقاد ما بعد الحداثة لمفهوم الميتافيزيقيا، وارتباط الشيخ (الفقيه أو الواعظ، أيا كان مسماه)، بالتاريخ يجعل الرؤية تجاه الاثنين مختلفة؛ لا على مستوى الرؤية التي يحاول طرحها الاثنان من خلال الهيمنة الثقافية على المجتمع فحسب؛ بل وأيضا من خلال النظرة التي ينظر لهما المجتمع، فمحاولة اتصال المثقف العربي بالعصرنة هو اتصال بمرجعية ثقافية مختلفة عن المرجعية التي يحاول من خلالها الشيخ الاتصال مع الحياة، فإذا كانت مرجعية المثقف عرضية؛ أي تتصل بالمعطى البشري/ التاريخي، حتى وإن كان اتصالا غير وثيق، مما يبقيه في خانة المنقود لاتصاله بالمنقود، فإن مرجعية الشيخ عامودية، أي تتصل بالمعطى فوق التاريخي، حتى وإن كان اتصالا غير وثيق كونه تداول بشري مما يبقيه في خانة غير المنقود لاتصاله بغير المنقود، وهنا الفارق بين الاثنين، فالمسألة تعود ليس إلى ذات المثقف أو الشيخ نفسه أو مدى موثوقيتهم أمام الناس، وأخلاقياتهم ذات الطابع البشري في كليهما، ومهما كان استقاء تلك الأخلاق؛ بل إلى المرجعية الثقافية التي يجد المجتمع نفسه من خلالها، والمتأصلة منذ قرون؛ أي أنها تمثل الهوية الجامعة.. إن التصور العام (وأشدد على كلمة تصور) لارتباط الشيخ بالهوية الجامعة، والضرب المتعمد، وغير المتعمد على أوتار هذه القيمة لدى المجتمع، يجعله أكثر قربا منهم، حتى وإن كان لا يمثل قيمة حقيقية لهم على أرض الواقع. وفي المقابل فإن التصور المخالف له تماما تجاه المثقف لإخراجه من هذه الهوية، يجعله يناضل كثيرا في تبرئة ذاته من تهم عديدة كونه اختار ذاته الفكرية على الاستلاب الثقافي الذي مورس ضده وضد المجتمع، ولذلك فإن خطأ المثقف، ولو كانت مجرد شكوك في رأس أحدهم لا يمتلك عليها أي دليل، يعتبر خطأ متأصلا في ذهن الناس لتغريب المجتمع أو تشريقه هدما لتلك الهوية، في حين يصبح خطأ الشيخ، حتى وإن كان واضحا كعين الشمس كما يقال، مبررا لاتصاله بقيمة الهوية التي يخاف الناس من انهدامها، لتبقى صورتها معززة في النفوس، حتى وإن كانت مستغلة من أي شخص مع وضوح هذا الاستغلال.