الإشكالية التي تظهر في الصراع بين المثقف والفقيه هي في مدى محاولة الاثنين إسقاط بعضهما من خلال تصورات اجتماعية عامة، ليست بالضرورة صحيحة، بسبب الرؤى الأيديولوجية المتصارعة تكاد تتنازع المجتمع شخصيتان تتمحور حولهما أكثرية الصراع الثقافي في الواقع السعودي هما: شخصية الفقيه وشخصية المثقف. أقول: "يكاد" في بداية الفقرة؛ لأنه ليس من الضروري أن يكون الصراع متمحوراً حول هاتين الشخصيتين دون سواهما؛ بل يتعداهما أحياناً إلى ما هو أبعد من قضاياهما لنطاقات أوسع من قبيل سؤال الإصلاح مثلاً لا حصراً، والذي يمكن أن تشترك جميع الأطراف في محاولة صياغته، إلا أن الاختلاف يعود أحيانا إلى نوعية مفهوم الإصلاح بالنسبة للشخصيّتين، لكن بشكل عام يبقى الصرع دائراً بين قضايا المثقف والفقيه العامة، التي هي بالأساس قضايا المجتمع كله، وليست خاصة بهما، ليشتركا في قليلها، ويختلفا في كثيرها. وتتسم العلاقة بين المثقف والفقيه في كثير من المرات ب"التضادية" الفكرية وليست بالضرورة التضادية الشخصية، إذ ربما كان هناك تواد شخصي بين عدد من المثقفين وعدد من المشايخ؛ لكن الرؤى الفكرية في حالة من حالات التضاد لاختلاف الأهداف، والرؤى، والمرجعية الثقافية، مما يخلق نوعاً من الاختلاف الذي يقترب أحيانا ويبتعد أحياناً أخرى. لكن بشكل عام، فإن الرؤى التي يسوقها المثقف عادة ما تصطدم بالرؤى التي يسوقها الشيخ، أو بالأحرى نقول وبلغة مخففة: رؤى غالباً ما أخذت منحى غير المنحى الذي ينحوه الفقيه في نظرته للأمور، وإن كانت أكثرية الهيمنة الثقافية في المجتمع هي لصالح الشيخ بالنسبة للمثقف، كون الشيخ مرتبطا بالتقليدية التي هي سمة الشعوب جميعها في بدايات تكوينها الثقافي، والتي (ربما) امتدت بها التقليدية إلى عصور طويلة مما كرس مثل هذه الهيمنة، وهنا تأتي شخصية المثقف كند ثقافي لا يمتلك تلك الكاريزما التي يمتلكها الفقيه أو الشيخ. لكن لا يعني ذلك أن المثقف ليس نداً قوياً للشيخ؛ بل هو الند (ربما) الوحيد، إذا غضضنا الطرف عن ندية المشايخ فيما بينهم. على طول التاريخ الإسلامي كانت الهيمنة الثقافية للفقيه على المثقف والاستثناء الوحيد كان في عصر المأمون الذي قرّب المعتزلة (المثقفين الدينيين في ذلك العصر) وأبعد المشايخ، لكن حتى في هذه لا نستطيع الجزم، كون المعتزلة أنفسهم يدورون في الإطار الديني الذي يخالف الإطار الديني للشيخ التقليدي؛ أي إنها محاولة للهيمنة الثقافية عن طريق تديّن مغاير للتدين التقليدي، أو هيمنة دينية نصية عقلية في مقابل هيمنة دينية نصية نقلية؛ مما أفرز الإشكالية الطويلة في تقابلية: (العقل والنقل)، ولم تفلح محاولات التقريب بين الثنائيتين على طول التاريخ الإسلامي، حتى بعد محاولات ابن تيمية في طرح لا تضادية العقل والنقل من منظوره الديني/النصي، أو محاولات ابن رشد في طرح تلك اللاتضادية من منظوره الديني/الفلسفي. طبعاً كان هناك العديد من الشعراء أو الأدباء (المقابلين لصفة المثقف في العصر الحديث) اتهموا بالزندقة أو الشعوبية، وتمت تصفية العديد منهم جسدياً أو مضايقتهم ومطاردتهم. في العصر الحديث يبرز المثقف (وهو بالمناسبة مصطلح طارئ على الثقافة العربية) والواعظ كقطبي الصراع في المجتمع، ليعيدا نفس الصراع السابق على الهيمنة الثقافية، لكن تبقى شخصية الفقيه أو الشيخ أقرب إلى المجتمع من شخصية المثقف. لن أخوض هنا في مفهوم المثقف، ولا في مفهوم الفقيه، كونهما مفهومين عريضين وشائكين. لكن يمكن اختصارهما إلى صفة من صفاتهما يشتركان فيها، تهمنا هنا في المقال، لتحديد منطقة الصراع، وهي: (إنتاج المعرفة) على اختلاف في نوعية هذه المعرفة، فالمثقف منتج لمعرفة إنسانية عقلية شاملة، والفقيه منتج لمعرفة دينية نصّية شاملة، وحينما أشدّد على كلمة (شاملة) لدى الشخصيتين، فإنني أعني محاولة الاثنين كليهما في الانتشار على أكثر من نطاق داخل قضايا المجتمع مهما كانت قضاياه سواء دينية أو اجتماعية أو سياسية أو حتى علمية خالصة، ولذلك دائما ما تدخّل المثقف في قضايا دينية نصّية من منظور عقلي، وتدخّل الشيخ في قضايا علمية عقلية من منظور نصي، ومن هنا تسقط المقولة الشائعة حول التخصص؛ أي تخصص الشيخ في قضايا الدين لعلمه بالدين أكثر من المثقف، أو تدخل الشيخ بالقضايا العلمية لجهله بالعلوم التطبيقية. فالمسألة في نظر الشخصيتين ليست في التخصص بقدر ما هي في تمظهرات هذه العلوم: الدينية أو العلمية على أرض الواقع، فإن كان الفقيه يسعى إلى "تديين الواقع"، فإن المثقف يسعى إلى "واقعية الدين" أو "توقيع الدين" كما هو تعبير المفكر يحيى محمد في كتابه: (القطيعة بين المثقف والفقيه) ص 147. وعلى هذا الأساس يمكن فهم الصراع الدائر بين المثقف والفقيه للاشتراك في منطقة الصراع والاختلاف في الرؤى الفكرية. طبعاً مع شدة الصراع بين الشخصيتين يتم استجلاب الكثير من التصورات العامة عن كلتا الشخصيتين من قبل بعضهما تجاه بعضهما، فكما هو تصور المثقف عن الفقيه بتشدّده ورجعيته، فإن الشيخ يلجأ إلى تصورات مناقضة كتحرر المثقف وفساده الأخلاقي، وهما تصوران قد يصدقان في شخصيات محدودة بين كلا الطرفين وقد يبتعدان؛ إذ كثيراً ما ظهر من مثقفين التزامهم الأخلاقي، وكثيراً ما ظهر من فقهاء تقدّميتهم الفكرية. إن الإشكالية التي تظهر في الصراع بين المثقف والفقيه هي في مدى محاولة الاثنين إسقاط بعضهما من خلال تصورات اجتماعية عامة، ليست بالضرورة صحيحة بسبب الرؤى الأيديولوجية المتصارعة، يحاول المثقف من خلالها زعزعة الثقة في الشيخ ويحاول الشيخ أيضا من خلالها زعزعة الثقة بالمثقف، ومن هنا نفهم بشكل أكثر جلاء الصراع الكبير والمبالغ فيه بين الطرفين بسبب عبارة ما من رجل ما أطلقها دون أي اعتبار لتاريخية الصراع بين المثقف والفقيه. والسؤال الأهم: أين يقف المجتمع في الأخير؟ ومن له الهيمنة في مستقبل هذا الصراع؟