لا يمكن إغفال طبيعة المسار المتعرج لما بات يعرف في العالم بثورات الربيع العربي، التي اندلعت في العديد من البلدان العربية في العام المنصرم، على الرغم من وجود سمات عامة مشتركة لأنظمتها الحاكمة، ووجود قواسم وقضايا مشتركة جمعت ما بين الثورات والاحتجاجات الشعبية المناهضة لها من جهة أخرى. وجدنا تنوعا في طرق وأساليب وأشكال التغيير في العالم العربي، هناك السلمي والعنيف، الجذري والإصلاحي، وهذا الاختلاف والتباين يعود بدرجة أساسية لمدى ودرجة نضج العوامل الموضوعية والذاتية في كل بلد على حدة. نشير هنا إلى طبيعة النظم السياسية الحاكمة، فالأنظمة الجمهورية وخصوصا المنبثقة عن انقلابات عسكرية (مثال ليبيا وسوريا واليمن) اتسمت بشكل عام، بالميل إلى استخدام العنف الدموي الأعمى، بعكس الأنظمة الملكية (مثال المغرب والأردن) اتسمت عموما بالاعتدال، والميل إلى المصالحة الوطنية، كما أقدمت على اتخاذ إجراءات إصلاحية ملموسة ومتفاوتة العمق. لا يمكن تجاهل توازن القوى على الأرض، في المواجهة المباشرة بين النظام والشعب، وعلى وجه التحديد موقف الجيش والتشكيلات الأمنية المختلفة، ومدى حياديتهما أو تورطهما في الصراع، فالجيش المصري وقف على الحياد، في حين انحاز الجيش التونسي للثورة، مما حسم الصراع سلميا في فترة وجيزة. من العوامل المؤثرة (سلبا وإيجابا) درجة وعمق الانسجام والاندماج على الصعيدين الوطني والاجتماعي، ومدى نضج التقاليد السياسية والمدنية. العوامل الموضوعية للتغيير في المنطقة العربية كانت ناضجة منذ أمد بعيد، وهو ما تمثل في تدهور أوضاعها الاقتصادية/ الاجتماعية/ السياسية المزرية، والتي تطرقت إليها العديد من الدراسات والتقارير المحلية والعربية والعالمية المعنية بالتنمية الإنسانية والبشرية. تلك التقارير تضمنت وقائع وأرقاما ومعطيات مخيفة عن فشل التنمية البيروقراطية/ الريعية، المستعارة، التي تركز على البعد الكمي/ الاستهلاكي، في حين تتجاهل الإنسان باعتباره أداة وهدف التنمية المستدامة في الآن معا. وهو ما انعكس في اتساع رقعة الفقر، البطالة، الأمية، الجوع، والمديونية، واتساع وتعمق التبعية للخارج، وشيوع مظاهر الفساد والاستبداد بكافة مظاهره وصوره، حيث غيبت الحريات العامة والخاصة، وجرت إعاقة أو منع قيام تشكيلات ومؤسسات المجتمع المدني (السياسية والاجتماعية والمهنية والثقافية والحقوقية) المستقلة. وقد أخضعت المرأة التي هي نصف المجتمع إلى إجراءات تمييز ظالمة. ولتكريس هذه الأوضاع والسياسات والممارسات الاستبدادية جرى تضخيم وتعميم سيطرة الدولة وأجهزتها البيروقراطية والأمنية لتصادر المجتمع والسياسة، وتحكم قبضتها على وسائل الإعلام والاتصال والنشر. بعض البلدان العربية كانت تفتقد إلى دولة القانون والمؤسسات (التشريعية والقضائية) الرقابية المستقلة، وتغيب فيها المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. كل ذلك أدى في بعض الدول العربية إلى نتائج خطيرة أثرت إلى حد كبير على وحدة الشعب والمجتمع والوطن من خلال استثارة الانقسامات والولاءات الفرعية (المناطقية والقبلية والدينية والطائفية) الموضوعية والتاريخية التي لا تزال قوية الجذور في المجتمعات العربية، ناهيك عن تولد حالات الإحباط واليأس وانعدام اليقين إزاء المستقبل بالنسبة للأغلبية الساحقة من السكان وخصوصا الشباب المفتقرين إلى العمل والتعليم والصحة والمعرفة، والمحرومين من المقومات الأساسية للحرية والعدالة والمساواة. وجود الظروف الموضوعية للتغيير، يتطلب توفر العامل الذاتي، الأمر الذي تحقق على يد الشعوب العربية، وفي المقدمة الشباب المنتفض في العديد من البلدان العربية، الذي كسر بشجاعة منقطعة النظير، حاجز الخوف والرهبة، وبات على يقين، أنه لا يملك شيئا يخسره، سوى أغلال العبودية والفقر والتهميش والمهانة. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 147 مسافة ثم الرسالة