سيصفق الكثيرون بالتأكيد لأردوغان وهم يرونه يحقق انتصارًا تلو الآخر، وسترتسم على ملامح شعوب دول الربيع العربي على وجه التحديد مظاهر الإعجاب بالرجل وبالتجربة، وسيتمنى بعضهم أن تنتقل كاريزما الرجل وحنكته السياسية إلى مسؤوليهم وأن تجتاز التجربة التركية الحديثة الحدود لتستقر في أوطانهم. رأت شعوب الثورات العربية في الانتخابات التركية الأخيرة بنزاهتها وشفافيتها صورة مماثلة لتطلعاتها وهي لا تزال تحبو نحو الدولة المدنية الحديثة، وتلقت الأحزاب السياسية وجماعات الضغط التي تملأ الدنيا صراخًا وتضيع الكثير من الوقت في صدامات لا طائل من ورائها درسًا بليغًا من حزب العدالة والتنمية، الذي حارب بصلابة في كل الاتجاهات ودون عنف أو تطرف وضد القوى التقليدية المسيطرة في الجيش والقضاء منذ الستينيات، ليحقق انتصارات مدوية في الشارع بتحقيقه أفضل النتائج على المستوى الاقتصادي وهي الأهم بالنسبة للأتراك. انتصر حزب أردوغان في الانتخابات، وحصل «السيد المحترف» كما يلقب في تركيا على نسبة اكبر من أصوات الناخبين في ولايته الثالثة، وتراجع بفضل نظام الانتخابات عدد مقاعده، وهو بالضبط نقيض الذي كان يحدث في النظم العربية التي أسقطتها جماهير الثورة، فهذه الجماهير اعتادت على حصول الحزب الحاكم دائمًا على اغلب إن لم يكن كل المقاعد، بينما الأصوات الحقيقية لهذا الحزب في ادني معدلاتها، ولكنها تتحول تلقائيًا وبفعل فاعل إلى نسب خيالية من التأييد المطلق. جاهد أرودغان كثيرًا وتخطى الكثير من الصعاب وهو يمشى على الحبال يحاول أن يبقى دائمًا على اتزانه وألا يسقط في ايدي المتربصين من العلمانيين العتاة، فلم يمكن خصومه تمامًا من بسط نفوذهم على مقدرات المجتمع وقيمه ولم يسمح للمكون الديني داخل الحزب أن يأخذ أي شكل من أشكال التطرف، وكان الأهم بين هذا وذاك أن تستنهض القدرات الاقتصادية للبلاد، وأن يرتفع الأداء الحكومي إلى المستوى الذي يرضى عنه الرأي العام ويلبي طموحاته. وكان من نتيجة ذلك كله أن سجل الاقتصاد التركي أحد أعلى معدلات النمو في العالم في العام الماضي (8.9%). ومنذ أن تولى حزب العدالة والتنمية زمام الحكم في 2002 ارتفع نصيب الفرد من الدخل الإجمالي من 3492 دولارًا أمريكيًا في عام 2002 إلى 10079 دولارًا العام الماضي، وانخفضت نسبة التضخم من 29.7% في عام 2002 إلى نحو 6.4% فقط في العام الماضي. وكان من نتيجة الأداء الاقتصادي المتميز في القطاعات الحيوية أن ارتفع دخل البلاد من السياحة الخارجية من 8.5 مليار دولار سنويًا في عام 2002 إلى أكثر من 20 مليار دولار في عام 2010، وأصبح عجز الميزانية المتواضع ونسبة الدين العام الضئيلة مثار حسد من كثير من دول الاتحاد الأوروبي المتخبطة. ويعتقد المراقبون بأنه إذا استمر حزب أردوغان في نسق خطواته المتسارعة في برامج التنمية فإن تركيا ستدخل ضمن أكبر عشرة اقتصادات في العالم في عام 2023، وهو الهدف والحلم الكبير الذي يسعى أردوغان لتحقيقه. لقد اعتمدت شعبية أردوغان على نجاحه في خلق اقتصاد مزدهر وإنهاء عقود من الائتلافات الحكومية، التي سادتها الفوضى والانقلابات العسكرية وخطط الإنقاذ المالي الدولية الفاشلة. وسياسيًا حقق حزب العدالة والتنمية إصلاحات داخلية مهمة لعل أهمها التعديلات الدستورية التي تم إقرارها في سبتمبر الماضي، ويرى المراقبون أن هذه الإصلاحات قد أعطت دفعة قوية للحياة السياسية في البلاد وحققت حالة من التعايش بين الإسلام السياسي وعلمانية الجيش بعد عقود من الصراع الأمني والدموي بينهما. وفي خضم الأمل وتطلع الشباب التركي لإدراك المزيد من النجاحات الاقتصادية لتحسين أوضاعهم، وعلى الجانب العربي، انتحر الشاب العاطل محمد بوعزيزي في تونس بعدما فشل في أن يجد وظيفة له في الحكومة ففجر شرارة الثورة في الرابع عشر من يناير ولفت أنظار العالم إلى المعدلات المرتفعة للبطالة في هذا البلد العربي للصغير والتي تعد من أعلى المعدلات في العالم العربي ووصلت إلى 14.5%، فلم يكن هناك توجيه سليم للموارد في ظل اتساع رقعة الفساد في المصالح الحكومية وتوجه استثمارات القطاع الخاص إلى المجالات التي لا تتطلب عمالة كثيفة فضلا عن توحش النظام البيروقراطي وبسط نفوذه على كل مجالات العمل الرسمية وغير الرسمية. وفي مرحلة ما قبل ثورة الياسمين في تونس ازداد الغضب والإحباط تدريجيًا في المجتمع مع حرمان الناس من حقوقهم السياسية المتمثلة في الحرية والعدالة والشفافية وحرمان الكثيرين منهم من أمانهم الاقتصادي. أما الثورة المصرية التي اندلعت في الخامس والعشرين من يناير والتي تقدمها الشباب فرفعت (تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعية) شعارًا لها، واكتسبت هذه الثورة اهتمامًا اكبر في الإعلام العالمي للدور التاريخي المهم الذي تلعبه مصر في المنطقة وتعداد سكانها الكبير، وقد عكس شعار الثورة القصير قائمة طويلة من المطالب السياسية دعت للتغيير الفوري والتخلص من إرث طويل من الإحباط وجمود الحياة السياسية في مصر الذي استفحلت معه مشكلات وأوضاع اقتصادية واجتماعية غاية في الصعوبة. وكما كان الرضا الشعبي عن حزب أردوغان الحاكم سببًا في توطيد النظام الديمقراطي في تركيا وفي تعزيز الثقة بين الشارع والحكومة، كان السخط والتمرد الشعبي العربي سببًا في تفكيك النظم التي لم تلق بالًا لمطالب الجماهير ولا تطلعاتها. ومنذ أن بدأت شرارة الثورات العربية من تونس بداية هذا العام ثم انتقلت إلى مصر وتشتعل الآن في مناطق أخرى، بات واضحًا أن السخط الشعبي هو العامل الأكثر صرامة ليس فقط لتصدع النظم السياسية الحاكمة وتآكلها بل لانهيارها تمامًا، فهذه الثورات التي جاءت من القاع وبلا قيادات وهياكل تنظيمية فاقت في تأثيرها كل العوامل الخارجية الضاغطة، واستطاعت أن تفرض قيمها بلا إملاءات واشتراطات، فقد بات أمام جماهير الثورة الصورة واضحة: الانهيار الاقتصادي لم يكن أبدًا بسبب طبيعة الاقتصاد العالمي ولا آليات التجارة الدولية ولا شروط المنظمات الاقتصادية، وإنما في الواقع بسبب استبداد الأنظمة الحاكمة وقمعها لحريات شعوبها. إذن، فالدرس الأول الذي تتعلمه الأنظمة العربية من الانتخابات التركية واضح جلي، وهو أن الأداء الاقتصادي الطموح والنزاهة السياسية والرغبة الصادقة في تحسين معيشة الشعوب ورفع معدلات التنمية هم الضمان الحقيقي للتأييد والمشاركة، فقد كان واضحًا بالنسبة للعديد من المراقبين السياسيين أن شريحة كبيرة من الناخبين الأتراك لم تعد تعطي أصواتها لاعتبارات إيديولوجية بل على أساس النتائج في الأداء الحكومي ونزاهة الشخصية السياسية المرشحة بغض النظر عن الخلفية الفكرية للمرشح. وثمة درس آخر يتعلق بعمليات الاستقطاب السياسي، فبينما كانت شخصية الحاكم او الرئيس والذي هو نفسه رئيس الحزب المهيمن السبب الأكبر وربما الأوحد في استماله السياسيين وفئات المجتمع المختلفة واستقطابهم في الأنظمة العربية «المخلوعة»، كان المشهد السياسي التركي يعج بالمناقشات المهمة حول مختلف القضايا في حراك ديمقراطي مثير، وبينما كانت الانتخابات العربية في السابق تغلفها أعمال البلطجة والعنف الممنهج رغم سيطرة الفكر الواحد وهيمنته على مجريات الحياة السياسية، كان الهدوء والأمن يكتنفان الانتخابات التشريعية التركية رغم كونها بحسب المراقبين من أكثر الانتخابات طرحًا ومناقشة لقضايا داخلية وسط أجواء غير مسبوقة من التوتر والاستقطاب السياسي إزاء العديد من القضايا الداخلية والخارجية الملحة التي تواجهها تركيا ووسط كم هائل من الوعود التي قطعها المرشحون على أنفسهم والاتهامات المتبادلة بين الحزب الحاكم والمعارضة. وحتى بعد انتهاء الانتخابات، أعلن أردوغان أن انتصاره هو انتصار للشعب بدون تمييز، معربًا عن استعداده للتعاون مع كل الأطراف المعارضة من اجل بناء المستقبل التركي، صحيح أن نظام الانتخابات التشريعية التركية (القاضي باستبعاد الأحزاب التي لا تحصل على 10% من إجمالي أصوات الناخبين من البرلمان وتوزيع أصواتهم على الأحزاب الفائزة) قد حد من انتصار حزب العدالة والتنمية قليلًا بحيث منعه من تعديل الدستور بصورة منفردة، إلا أن الحزب وهو يسعى لتحالفات لتحقيق هذا الهدف يراهن على ارتفاع نسبة التصويت له واتساع شعبيته في الشارع وهو الكفيل بالضغط على ممثلي الشعب لتمرير القوانين والسياسات الإصلاحية. وستمنح الشعبية الطاغية لأردوغان بالتأكيد في ولايته الثالثة المزيد من الاستقرار السياسي. وهنا يبرز درس مهم آخر لا بد وأن تتعلمه الشعوب العربية الطامحة نحو الديمقراطية، وهو أن الاستقرار ليس فضيلة في حد ذاته كما حاولت الأنظمة العربية المخلوعة تسويقه، فبقاء الأوضاع السياسية على جمودها واتساع رقعة الفساد وإرهاب الشعوب بالممارسات القمعية ليس استقرارًا بل هو استبداد واضح، ومن خصائص الديمقراطية أنها تنشط الخلافات وتقبل بتعدد الآراء وتتحدى المواقف الاجتماعية وتتواجد في مناخ من التغيير، وبالطبع سيكون الأمر أكثر بعد الثورات حين يتحول احترام الرأي الآخر والقبول بأفكار الآخرين إلى ساحة للعبة التخوين السياسي وإقصاء الآخر، لأن ذلك من شأنه أن يبقى على الديكتاتورية حتى وإن سقط الديكتاتور. الشعبية الطاغية لأردوغان وحزبه في الشارع التركي ونظرات الإعجاب في أعين بعض الشعوب العربية ليست نهاية المطاف لسياسي مخضرم ولحزب صاحب تجربة مميزة، فالطريق لا يزال صعبًا وثمة مناطق شديدة الوعورة يخشى أردوغان أن يساق حزبه إليها، كما أن عليه أن يواجه بثبات بعض الاتهامات من الخصوم بسعيه نحو تكوين ديكتاتورية في داخل الحزب وتغييره المستمر لأعضاء الحزب، ففي انتخابات عام 2007 غير ثلثي البرلمانيين من الحزب وها هو اليوم يغير أيضًا 220 عضوًا منهم في الانتخابات الحالية. سيكون على أردوغان أيضًا أن يعدل من حسابات قديمة خاصة بانضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، والتوازن في العلاقات الخارجية مع أوروبا وخاصة مع ألمانيا وفرنسا اللتين ترفضان منح تركيا العضوية. وثمة تحديات داخلية أيضًا هما التعامل مع الملف الكردي، فالقضية الكردية باتت عرضة للانفجار أكثر من أي وقت مضى في ظل التجاهل النسبي الذي أبداه أردوغان لها. وهناك تحديات إقليمية أيضًا مع التغيرات العاصفة التي تمر بها المنطقة العربية تحتم على أردوغان التعامل بحرص مع ملفات إقليمية حساسة مثل العلاقات مع تل أبيب طهران من ناحية والتعاون المشترك مع الدول العربية من ناحية أخرى.