وأذن في الناس يأتوك رجالا ونساء وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ينوون القدوم إلى المشعر الأعظم، وتطأ أقدامهم أقدس بقاع الأرض حيث المدرسة الحقيقية للحياة. حين أذن في الناس للشعيرة الأعظم وبدأت رسالة الحج بأسمى معاني التضحية، عندما هم إبراهيم بنحر ولده إسماعيل قربانا إلى الله في يوم عيد الأضحي الأكبر فتجلت في تلك الصورة أروع معاني بر الولد لوالده لتكون درسا من دروس الحياة المؤدية إلى نعيم الآخرة. الحشود حول الجمرات غفيرة، والتجمع لقذف الشيطان سنة من سنن الحج تتضح فيه صورة إنسانية عظيمة، أيقن فيها الحاج بأن الجنة تحت أقدام أمه فكان لها سد منيع من التدافع وقرب لها الحصى لترجم الشيطان وتنهي منسكها. يقول الحاج هارون حسين، والذي لقطته عدسة الكاميرا وأصررنا على انتظاره خارج حدود الصحن، «الأم مدرسة رضاها والحرص على راحتها خريطة الطريق نجو الجنان». يلتقط أنفاسه من التعب ويسقي أمه رشفة ماء تبلل بها ريقا جففه العناء ويمسح براحة يده بقايا التعب المرسومة على تجاعيد وجهها ويكمل الحديث، «هي الأم التي حملتني في أحشائها الأشهر التسعة وأسقتني طعاما شدني من صدرها عامين، وهي المدرسة التي علمتني منذ مراحل حبوي وحتى أصبحت قدماي تحملني». ويضيف ويده لا تزال تزيل التعب عن وجه أمه ليمسك بقدميها يمسجهما، «كيف لي أن أعيش بعيدا عن جنة مكانها هنا، وكيف لي ألا أحرص على راحتها وهي التي طالما سهرت الليالي تحمل همي وتخفف عني عناء المرض». في الحج مشاهد عظيمة ومناهج تدرس الأجيال، إذ أن جموع الحشود تلقن فيها أسمى معاني التساوي في الملبس والمنسك والتعاطي مع الحياة، في المشاعر المقدسة صورة جلية لملايين البشر تنضح منها أروع صور التعامل والتكافل والعطاء، في الحج صورة عبادة بروازها المكان والبشر.