تعمدت تأخير نشر هذه الصفحة حتى اليوم، في الذكرى السنوية لمعركة بدر الكبرى، كي يتذكر محبو الراحل الدكتور محمد عبده يماني حبيبهم في مثل هذا اليوم الذي يشع فيه الراحل نشاطا كتابيا وحركيا تخليدا لذكرى «يوم الفرقان» التي قلبت موازين البشر حتى تحقق النصر المراد للمسلمين في موقعة كانت فيصلا بين الحق والباطل. وكان للراحل يماني احتفاء سنوي بهذه المناسبة «البدرية»، حيث يشير ابنه «ياسر» إلى أنه كان «يستمد من ذكراها الدروس والحكم، ويتذكر تلك المواقف العظيمة في صدر الإسلام في كل مناسبة، مثل معركة بدر وفتح مكة وغيرها»، داعيا محبي الراحل للسير على ذلك النهج الذي كان يسير عليه. لم يكن أحد يعرف حجم العمل الخيري الذي كان يقوم به الراحل الإنسان الدكتور محمد عبده يماني إلا بعد وفاته لكثرته وتعدده، وكثير منها لا يعرف أحد عنها شيئا حتى المقربون منه، إلا بعد أن نطق بها المستفيدون منها بعد وفاته، وأفصح عنها من يعرفها من القليل المقربين منه. وليستمر عطاء محمد عبده يماني بعد وفاته، أنشأ صهره وصديقه الشيخ صالح كامل وابن الراحل ياسر (مؤسسة محمد عبده يماني للأعمال الخيرية) لتبدأ مهماتها من رعاية الأيتام وإصلاح ذات البين وفق عمل مؤسسي منظم، ثم الانطلاق لاحقا نحو الأعمال الخيرية الأخرى، ومن رحم تلك المؤسسة الخيرية أعلن صالح كامل عن إنشاء كرسي علمي في جامعة أم القرى (كرسي محمد عبده يماني لإصلاح ذات البين). وتخصص تلك المؤسسة الخيرية في رعاية الأيتام وإصلاح ذات البين، لا يلغي إسهامات الراحل في بقية المجالات الخيرية، مثل: الإطعام الخيري، المساعدات المالية، دعم حلق تحفيظ القرآن، علاج المرضى الفقراء، تأهيل الشباب، بالتعاون مع عدة جهات خيرية، بل إنها تعد فاتحة لأعمال خيرية مقبلة، وله اهتماماته بالأقليات المسلمة في أنحاء العالم، وتنقل في بلاد الأقليات في البلدان الأوروبية والأفريقية والآسيوية. ولأن الراحل الدكتور محمد عبده يماني كان لا يعيش لنفسه، بل يقضي جل وقته لمصلحة المجتمع والسعي في قضاء حوائج المحتاجين، فإن الشيخ صالح كامل يؤكد أنه «قدوة حسنة للكثير بعد وفاته، ولأننا لا نريد لهذه الخصال أن تنقرض فكرنا مع أبنائه وتقدمنا بطلب لوزارة الشؤون الاجتماعية لإنشاء مؤسسة خيرية باسمه». وكتب عنه صديقه ورفيق دربه الدكتور عبد العزيز خوجة بعد وفاته رسالة أخوية مؤثرة بعد وفاته بيومين فقط في نبرة حزينة وعبارات حب ووفاء، وقال في ختام ما كتبه «أبلغك سلام الأحبة والأقارب، أبلغك سلامي، أبلغك سلام هذه العين التي ترتجف، أبلغك سلام هذا القلم الذي يئن ويرتعش، أبلغك سلام الزهرة البيضاء التي نبتت بجوار مرقدك، أبلغك العشب الأخضر، رأيت ثراك عشبا أخضر وزهرة بيضاء، أبلغك سلام الغريب الذي قرأ في الصحف، أو سمع من قريب خبر فراقك، فأطرق حزينا، أبلغك سلام الحبيب الذي صبر واحتسب على تراتيل الدموع، أبلغك سلام الفقير الذي وجد الغيمة في يدك، أبلغك سلام الضيف الذي نال الدفء في نظرتك، أبلغك سلام الذي لم يحضر معزيا أو مواسيا من هول الكدر والصدمة، أو لم يستطع، أبلغك سلامي يا أخي، أعرف أنك تكترث، فهل تبتسم؟، أخي دكتور محمد عبده يماني يوما سنلتقي، إلى اللقاء». أما صديقه الذي لا يستطيع أن يفارقه الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان فقال عنه عقب وفاته «عايشك أبناء وطنك زملاء الدراسة والعمل، ومن عرفك عن قرب، أو بعد على مدار سني حياتك العامرة بالعلم والعمل فكنت بينهم مثلا أعلى، وقدوة حسنة في العمل، والإخلاص، أما وقد نثرت فضائلك، وشاعت حسناتك، وتحدث بها المتحدثون فإني لا أخالها إلا دروسا نعيها، وفضائل نقتدي بها، هذا هو محك الصادقين، ومعيار الحب والإخلاص من المعجبين بأخلاقك، الذين شرعوا أقلامهم متحدثين بوجاهة منهجك، ومدرستك الإسلامية، فاليوم أنت أشد وعظا، وأعظم درسا من حياتك لنا». بعد تحوله من العمل الحكومي آخرها وزيرا للإعلام، اتجه الراجل إلى العمل الخيري داخل المملكة وخارجها من خلال الذراع الخيرية لمجموعة دلة (مؤسسة اقرأ الخيرية)، فوجد في العمل الخيري متعته، وتحديدا اهتمامه بتعليم أبناء المسلمين القرآن، «شاء الله تعالى بعد تركي للعمل الحكومي أن أتاح لي فرصة العمل الخيري، فوجدت فيه متعة كبيرة، ولا شك أن اتصالي بالمحتاجين وصلتي بهم شغلتني كثيرا بأعمال فيها الخير والبركة وخدمة هؤلاء الإخوة، وهذه الأعمال الخيرية كانت من الأشياء التي أمتعتني وسرتني وشغلت الكثير من وقتي». كما أن له اهتمامات بقضايا المرأة، وكان يشدد على هذا الجانب «الكثير من الناس أصبح يتحدث عن المرأة وكأنها إنسان غريب نخشى على مجتمعنا وتنميتنا منه، مع أن الإسلام أعطاها ما لم يعطها أي قانون آخر، ولكننا نحن الذين لا نحسن التطبيق، أعطوهن ما أعطاهن الله، وما أمر به رسوله الذي لا ينطق عن الهوى، والذي جعلهن شقائق بمعنى أن لهن حقوقا مثلما أن عليهن واجبات، ونحن اليوم نقود نهضة لا ينبغي أن نعطل فيها نصف الأمة، ولكن نتعامل معها بصورة تجعلها تعمل وتكسب رزقها في إطار الشرع الحنيف الذي أمرنا بالالتزام به، وبذلك نحقق النهضة التي نرجوها» (عكاظ، 23 ربيع الآخر 1431ه). لن أستطيع أن أنقل كل ما قاله محبو محمد عبده يماني والمقربون عنه قبل رحيله أو بعد، ولكني أجمل تلك الكلمات التي قيلت وكتبت عنه في عدة جمل لعلها تكون كافية، وأجمع الكثيرون أن محمد عبده يماني كان من الشخصيات السعودية والقامات الحجازية المتعددة الجوانب والاتجاهات، وأحد الظواهر التي تستحق الالتفات لها، التي لم تزده المناصب إلا تواضعا، ذي المناقب والمكارم الذي جمع المجد من أطرافه، متدين عاقل، إنساني الطباع، مضيء الجوانب المعتمة، معدن ثمين، أيادي بيضاء، جواد كريم، صديق صدوق، صبور شكور، عطوف سموح، لين رحيم، واسع الصدر، حليم الشخصية، متابع مهتم، علمي الرؤية، مثقف وأديب، مفكر ثاقب، إعلامي لامع، قلم سيال، فعال نشط، إداري محنك، صديق حميم، صاحب قضية. وبسبب ميوله الأدبية، لم يكن الراحل محمد عبده يماني راغبا في التخصص العلمي البحث، ولكنه اعتبرها أضافت الكثير له في تشكيله الثقافي، وصنعت له مكونات أدبية وعلمية، «شاء الله أن أنشأ نشأة أدبية، ودرست في الحرم المكي الشريف على أيدي عدد من العلماء، وتعلمت الأدب على أيدي أساتذتي في مدارس الفلاح، ولكن عندما أردت التخصص أقفل المجال الأدبي، وطلبوا مني أن أذهب إلى مدراس أخرى، فكرهت ذلك وآلمني أن أترك مدرستي فصممت أن أحول التخصص إلى العلوم، وهكذا تخرجت في القسم العلمي، وتسلسلت في حياتي بعد ذلك فدخلت كلية العلوم، فكنت من الدفعة الأولى التي درست في جامعة الملك سعود في مجال الجيولوجيا، ثم تخصصت في أمريكا في مجال الجيولوجيا الاقتصادية، وقمت بإجراء دراسات عن الثروات المعدنية في المملكة، وأحسب أن هذه الحياة العلمية أضافت الشيء الكثير إلى تشكيلي الثقافي، وجاءت رافدا مهما من الروافد التي أسهمت صناعة المكون الأدبي والعلمي والثقافي بالجملة». ذلك هو الرجل المكي الحجازي، الذي ولد في أطهر بقاع الأرض مكةالمكرمة عام 1359ه (1940م) وتلقى تعليمه الأولي في أروقة المسجد الحرام، جمع بين العلوم الطبيعية (الجيولوجيا) والعلم الشرعي والثقافة والأدب، بعد تخرجه من الثانوية العامة في مدرسة العلم والثقافة والفكر المشهورة (الفلاح) عام 1383ه، أكمل تعليمه في تخصص (الجيولوجيا) فحصل به على البكالوريوس (1387ه) من جامعة الملك سعود (الرياض سابقا) وعين محاضرا فيها، ويسافر بعدها إلى (كورنيل) في الولاياتالمتحدةالأمريكية ليحصل على الماجستير والدكتوراة في الجيولوجيا الاقتصادية (1390ه). عاد إلى الجامعة أستاذا مساعدا ثم أستاذا، وعين بعدها وكيلا لوزارة المعارف (1392ه)، وفي العام نفسه عين وكيلا لجامعة الملك عبد العزيز، ثم مديرا للجامعة بعدها بعام واحد فقط، ليعين وزيرا للإعلام (1395 1403ه). بعد تركه العمل الحكومي مباشرة، عمل نائبا لرئيس مجموعة دلة البركة، ورئيسا لمجالس إدارات عدة مؤسسات تجارية واجتماعية محلية وخارجية، في المجالات الخيرية، والثقافية، والأدبية، والإعلامية والنشر، والبنكية، والصحية، والعلمية، والتعليمية، والتنموية، والاستثمارية. يملك أسلوبا إبداعيا في كتاباته ومؤلفاته وأبحاثه العلمية والدينية والثقافية والأدبية، وكتب باللغة العربية والإنجليزية في علوم الجيولوجيا، والإعلام، والأدب، والقصص، والتاريخ الإسلامي، ولكنه اشتهر بتخصصه في الكتابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وآل بيته، وله اهتمامه بتصنيف الحديث النبوي عن طريق الحاسب الآلي، كما أنه يملك أسلوبا قصصيا إبداعيا، واشتهر بعموده الصحافي (للعقلاء فقط) الذي كتب فيه الكثير من المقالات العلمية والثقافية والإعلامية والأدبية, وألف ما يقرب من 40 كتابا. ومع اهتمامه بالترجمة كثيرا، إلا أنه يعتب كثيرا على المثقفين العرب في عدم التواصل فيما بينهم، «قبل أن نفكر في ترجمة أعمالنا ليقرأها الغربيون علينا أن نطالب بضرورة تواصل الأدب العربي بين أبناء الأمة العربية، وهناك نقض شديد في تداول الكتاب العربي ككل، والكتاب الأدبي على وجه الخصوص بين الدول العربية، وكثير من المبدعين في العالم العربي وبصورة خاصة في المغرب العربي لا نعرف عنهم إلا أقل القليل، وهذا حقيقة عيب كبير فينا كمثقفين عرب» (الشرق الأوسط، 11 يوليو 1985م). شارك الراحل محمد عبده يماني في عضوية العديد من المنظمات واللجان، أبرزها: المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، لجنة جائزة بنك التنمية الإسلامي، مجلس الأدباء في تونس، مجلس الأمناء في معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في جامعة فرانكفورت في ألمانيا، مجلس إدارة هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، مجلس إدارة الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في منطقة مكةالمكرمة، رابطة الأدب الإسلامي في الهند، لجنة مساعدة الأطفال المعوقين في جدة، مجلس إدارة الجمعية السعودية الخيرية للأطفال المعوقين، مجلس إدارة الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام في مكة. هذه المراحل المضيئة في مسيرة الراحل الدكتور محمد عبده يماني، أهلته لنيل الكثير من الأوسمة، أبرزها: وشاح الملك عبد العزيز، الميدالية التقديرية من حكومتي قطر ودبي، وسام برتبة قائد «كوماندوز» من موريتانيا، وسام «مهابوترا أوبيروانا» مع براءته من جمهورية إندونيسيا، براءة وسام الكوكب الأردني من الملك حسين بن طلال، براءة وسام الاستحقاق الوطني بدرجة ضابط أكبر من رئيس جمهورية فرنسا، ووسام إيزابيل لاكاتولييكا الكبير مع براءته من ملك إسبانيا.