المعقول واللا معقول. من يفصل بينهما ؟ من يحدد هذا وذاك ؟ الجواب: هو العقل الذي هو المعقول ذاته، فالمعقول إذن هو أساس الفصل بينه وبين غيره. ومادام هو ذاته المعيار فإننا لم نزل بعد في دائرته. والحكم الذي نصدره على اللامعقول مشروط بتصور سلبي وخارجي لهذا الأخير، إنه تصور عرضي لا يرى ما هي بنية اللامعقول ولا طبيعته؛ فلا يكفي أن نقول إن اللامعقول هو كل ما لا يمكن فهمه وحسب. فلنقرر أن كل مظاهر النشاط الإنساني التي تأخذ مكانها في الإطار الاجتماعي الثقافي اللغوي هي مظاهر (معقولة)؛ كل المظاهر، حتى التي نصفها بالخرافية، فمادامت تتموضع في الإطار الاجتماعي فهي معقولة، على الأقل بالنسبة لأفراد هذا المجتمع. إن المرء داخل الأفق الثقافي يمنح لكل شيء معناه. وعملية المنح هذه خاضعة للقيم والمعايير الثقافية، إنها ببساطة خاضعة للمعقولية الثقافية. ويمكن التماس معيار للعزل بين المعقول واللامعقول هكذا: اللامعقول هو ذلك الشيء الذي يمتنع على العقلنة الثقافية، إنه لا يخضع لعملية العني (منح المعنى). فالشيء لا يكون قابلا للعني الثقافي إلا بمقدار ما يجد له موضعا داخل الأفق الثقافي، وتأقلمه مع عناصر البنية الثقافية والعلاقات القائمة فيها. فاللامعقول هو مبدئيا كل ما هو غير قابل للموضعة الثقافية، وبالتالي للعني الثقافي. العقل الثقافي هو عقل اجتماعي ذو طابع تواصلي توصيلي. إن كل شيء (كلمة، سلوك، تصور، .. ) يصبح معقولا ثقافيا في اللحظة التي يدخل فيها إلى «السوق الرمزية الثقافية» حسب تعبير بورديو أي إنه سلعة ثقافية ذات قيمة معينة أو معنى ثقافي محدد. أما طريقة تحديد القيمة (المعنى) فهذا يعود إلى دراسة مظاهر أخرى مخصوصة للثقافة لمعرفة الأولويات التي يقررها التقييم الثقافي ذاته. فهناك قائمة من المكونات والعلاقات تأخذ مكان «الصدارة» وأخرى تنأى إلى الهامش. وما يصبح معقولا ثقافيا يختلف عن تلك المكونات التي ظهرت منذ زمن بعيد، ولكنها تتبادل أدوار الصدارة فيما بينها. فالمعقول الثقافي الجديد كل الجدة يمكن تسميته بالمكون الطارئ. إنه يأخذ قيمة جديدة في السوق الرمزية، ويجري على منطق مختلف. ولكي نتحدث عن القيمة الأصلية والجوهرية والمطلقة للعنصر الثقافي أو المعنوي يجب أن نضع افتراضا حول نسق من المعقولية العالمية. فالتداول الثقافي العالمي؛ تداول التصورات والمفردات والسمات الثقافية بين شعوب العالم يخفي الأصل الحقيقي للأشياء. إن النسق العالمي هو نسق ثقافي مرفوع وأكثر تجريدا. ويمكن القول، والحال هذه، إن العقل العالمي ينطوي على تصوراتٍ قابلة للتداول الثقافي، وتحتفظ نوعا ما بشيء من قيمتها. أما القيمة الأصلية التي تجعل التداول العالمي (النقل، الانتشار الثقافي، الترجمة ..) ممكنا فهي تعود إلى القسم الثاني للعقل الإنساني العالمي، أي للعقل الأكثر ثباتا ورسوخا، إنه المنطق ذاته الذي يجعل من العلوم والرياضيات وغيرها من العلوم الصورية ذات طابع عالمي دون أن تترجم إلى خصوصية ثقافية معينة. فهل نقول إن المكونات المنطقية الصورية التي يحوز عليها العقل العالمي هي أساس التفاعل الحضاري ؟! إن المنطق الثقافي الخاص بحضارة ما وبلغة ما يمكن اختزاله ورفعه والبحث عن جذوره في المنطق العام (المنسوب إلى العقل العالمي). والثقافات تلتقي في هذا العقل، ولكنها في الحقيقة لا تكون ثقافات إلا إذا اختلفت وتباينت الواحدة منها عن الأخرى. وهذا هو الواقع، فما الذي يجعل الاختلاف بين الثقافات ذات الأصل الواحد (شكليا على الأقل) ممكنا. بمعنى : إذا سلمنا مع بعض علماء الإثنولوجيا (شتراوس مثلا) أن ثمة بينة عقلية باطنة تحكم العقل البشري الذي ظهر في مراحل مختلفة ومتباعدة في التاريخ، فما الذي يجعل الاختلاف حقيقة واقعية ؟ يمكن أن نصوغ السؤال مرة أخرى على النحو التالي: حينما نختزل ونجرد الثقافات لكي نصل إلى البنية العقلية العالمية، ما الذي نحذفه بالضبط في هذه العملية ؟! ما الذي قام به شتراوس ؟ بجواب سريع: لقد حذف المكونات المادية والمحتوى العيني، وأبقى على الشكل الصوري والعلاقات العامة. فلنأخذ اللغة أيضا كمكون ثقافي خطير. ما الذي فعله تشومسكي بها ليصل إلى النحو العقلي العام لكل اللغات ؟! نحن لا ننكر الآن وجود منطق رمزي وشكلي عام، بنية نحوية أو بنية عقلية، ولكننا نتساءل فقط. نحن نعرف أيضا أن الشيء في إطار العلوم يتم الحذف منه حتى لا يبقى فيه سوى العام؛ ف «الظاهرة» عند هوسرل يتم محو كل تفاصيلها المتفردة لتصبح ماهية كلية قبلية، وال «أنا» تصير «أنا» مطلقة كلية. دعونا الآن نتفحص العناصر المحذوفة من كل ذلك. ما هي ؟ لماذا حذفت ؟ ومن أين جاءت ؟ لو تأملنا للحظة في كل المظاهر الثقافية والإنسانية السابقة لوجدنا أن ما يحدد العناصر الفردية ويعزلها عن المكونات التجريدية العمومية هو نمط العلاقات القائمة أو المراد بناؤها. إنني قد أحذف هذا العنصر وذاك من أجل البحث عن نمط من العلاقات القائم أصلا في ذهني قبل البحث (وهذه حقيقة يقر بها اليوم علماء العلوم الموضوعية الدقيقة). إن هذا العنصر أو ذاك المحذوفين أو المطرودين قد يدخلان في صميم البناء أو القانون أو المعقولية إذا ما تغير نمط العلاقات، وإذا ما تغيرت وجهة نظر الباحث. ووجهة النظر هذه هي عند التحقيق الأخير نابعة ليس فقط من النهج العقلي أو العلمي للباحث بقدر ما هي نابعة من «إرادته». فالإرادة التي أعترف بصعوبة إعطاء تصور واضح لها هي أشهر وأهم مكونات «اللامعقول»، وأنا غير قادر على إعطاء هذا التصور لأن إعطاء التصور هو عملية عقلية. الإرادة إذن هي المحدد الرئيسي ليس فقط للفصل بين المعقول واللامعقول، بل ولإعطاء العقل ذاته معناه. سنتحدث بتفصيل عن «الإرادة» لاحقا. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة