للأوبريت الغنائي الافتتاحي في المهرجان الوطني السنوي للتراث والثقافة قصص عدة تروي حكايات غاية في الاختلاف.. على نحو .. الإنشاد للوطن متى وكيف يكون؟ ومتى بدأ اعتماد تقديم «أوبريت»؟ ومن هم فرسان هذه الأعمال الوطنية الكبيرة التي هي أشبه بملاحم. ثم كيف استوعبت هذه الملاحم المتتالية عطاءات الكبار من شعرائنا وفنانينا؟ وأسئلة كثيرة نطرحها في هذا التحقيق ونجيب ويجيب عليها مختصون ونقاد وإعلاميون وفنانون وذوو اختصاص.. بداية أداء الأوبريت كان بثنائية أكثر من رائعة بين الراحل طلال مداح (رحمه الله) وفنان العرب محمد عبده ثم أتيحت الفرصة لكبار مغنينا السعوديين مثل عبادي الجوهر، رابح صقر، محمد عمر، علي عبد الكريم، عبد المجيد عبد الله، راشد الفارس، خالد عبد الرحمن، وعباس إبراهيم وغيرهم، ثم وفي دورات معينة ارتبطت بمناسبات شارك نجوم الغناء في الخليج في إحدى الدورات ثم توسع الأمر وقدم الأوبريت في دورة تالية على المستوى العربي وشارك فيه كبار نجوم الغناء العربي مثل عبد الهادي بالخياط من المغرب، هاني شاكر من مصر، أحمد فتحي من اليمن، نور مهنا من سورية، ومهند محسن من العراق وغيرهم .. نستعرض اليوم الكثير من جوانب العمل الوطني الغنائي في الجنادرية بعد أن أتم العام الماضي يوبيله الفضي ليبدأ الأربعاء المقبل إن شاءالله مشوارا جديدا في التأريخ والفن والعطاء غناء للوطن. كان انطلاق الدورة الأولى لمهرجان التراث والثقافة «الجنادرية» في العام 1405 ولم يكن يومها قد أقر اعتماد أوبريت وطني للافتتاح، وهو الأمر الذي أقر وظهر كعنصر ثابت منذ الدورة السادسة للمهرجان في العام 1410 يوم قدم أوبريت «مولد أمة» من أشعار الأمير سعود بن عبد الله وألحان محمد شفيق وقدم بصوتي طلال مداح ومحمد عبده. وفي نفس الدورة انطلق عمل مشترك بينهما «الله البادي» من أشعار الأمير بدر بن عبدالمحسن وألحان محمد شفيق، وللتأريخ وقبل اعتماد الأوبريت السنوي الأول في الدورة السادسة 1410 كان طلال مداح (رحمه الله) افتتح الدورة التي سبقتها الدورة الخامسة وبحضور المغفور له الملك فهد بن عبد العزيز (رحمه الله) أغنية وطنية نالت الكثير من النجاح وهي «عز الوطن» من ألحانه وكلمات الأمير بدر بن عبد المحسن وهي التي رددها معه كل الوطن بمطلعها الجميل «الله الأول وعزك يا الوطن ثاني .. لاهل الجزيرة سلام وللملك طاعة .. حنا جنود الحرس للقايد الباني .. رمحه ودرعه وكف الشيخ وذراعه .. من بان عبدالعزيز وصبحنا بان . . ما عاد نقبل ظلام الليل لو ساعة». أما الأوبريت الحادي والعشرون الذي سيلتقي به جمهور المهرجان الأربعاء المقبل في الدورة السادسة والعشرين فهو بعنوان «فرحة وطن» من أشعار عبد الله الشريف ولحنه كل من صالح الشهري ورابح صقر بعد اعتذار محمد عبده عن مهمة تلحينه لانشغاله، بينما سيقوم بالأداء مع رابح صقر، عبد المجيد عبد الله، وعباس إبراهيم. وربما غيرهم إذا جد جديد غدا السبت. والملاحظ أن التكليف المزدوج لمهمة التلحين بدأت منذ الدورة الماضية 2010 / 1431 عندما كلف ماجد المهندس وناصر الصالح بتلحين نص الشاعر ساري في أوبريت «وحدة وطن». متى تكتب الأوبريت شاعرات من ناحيتها، كانت اللجنة النسائية في المهرجان تفتتح أنشطتها بأوبريت منذ دورة العام قبل الماضي كان قد كتبه الشاعر سامي الجمعان (2009 2010) على أمل أن تكتب شاعرات هذا الأوبريت الافتتاحي للجنة النسائية، محاولات عدة حاولتها شاعرات سعوديات للدخول إلى قائمة مجد كتاب الأوبريت الافتتاحي للمهرجان كانت آخرهن الشاعرة الموهوبة والمستميتة في هذا الاتجاه وبتكليفها بالمهمة الشاعرة نسرين بنت محمد وقبلها كثيرات إلا أنه لم يئن الأوان بعد لتكليفهن رسميا، وكان الأمير متعب بن عبدالله قد تحدث كثيرا بهذا الصدد تشجيعا للشاعرات المبدعات بالفعل على نحو: الوطن مبدعون ومبدعات في كل المجالات وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بالتعبير عن الوطن أدبا وشعرا وتراجم حب، ولابد أن تأتي الفرصة لشاعرات الوطن للتعبير عن ما يجيش في دواخلهن من تعابير نحو هذا الوطن الذي أغدق علينا ونحميه بعد حماية الله .. وكان الأمير متعب في مساء تكريمه في إثنينية عبدالمقصود خوجة العام الماضي في رده على الشاعرة نسرين بنت محمد .. حاضرة الأمسية في الاستفسار حول إمكانية كتابة سيدة شاعرة لهذه المناسبة: الكل مرحب به ونحن في دراساتنا المستقبلية أمامنا خيارات إبداعية نسائية عديدة للأوبريت الافتتاحي. فن إيجابي اتجهنا إلى الملحن سامي إحسان لنسأله عن سبب عدم اختياره لتلحين أوبريت الجنادرية فرد قائلا: «الفن لابد أن يكون له رسالة وقيمة وموضوع وأن يؤثر في التوعية والثقافة وأن يدفع بالمتلقي إلى الأمام فهذا هو الفن الإيجابي الحقيقي». وأضاف «إن مثلي لايصح أن يقول أي شيء ولم أعد أهتم بأي شيء فقد قلت كثيرا عندما كنت أهتم بأي شيء وعلى أي حال الإجابة عندي فكأنني لا أسمعك وإذا سمعتك فهو منتهى الأدب واللطف مني». وزاد إحسان «معظم من يتكلمون في الفن يجب أن يسكتوا لأنهم لايعرفون ماذا يقولون والفن مرآة الحضارة والفن لغة وفكر ووجهة نظر والحوزة على التقدير لم تزدني إلا تواضعا وتصالحا مع النفس ومزيدا من الإخلاص في العمل حيث لا أرض ولا طقس يشبهني سوى أرض بلادي وطقسها»، يكفيني فخراً أن ابني في عالم الفن عبدالمجيد عبدالله وعباس إبراهيم هما من يمثلاني في الجنادرية كل عام وهذا بمثابة حضور لي. رؤية موسيقية وعن الرؤية للألحان والموسيقى التي قدمها أوبريت الجنادرية تحدث الملحن جميل محمود قائلا «لوحات الجنادرية المختلفة التي قدمت خلال السنوات السابقة، أنتجت لنا أعمالا رائعة وجميلة، حيث إن الأوبريت يعبر عن قصة، والجنادرية عبارة عن لوحات شعبية تتحدث عن التاريخ»، واعتبر محمود أن كل إنسان لحن أو غنى أو كتب أو شارك في مهرجان الجنادرية فقد قدم كل ما لديه، وقدم أمورا جميلة ورائعة. وأشار إلى أن الساحة الفنية أصبحت بلا إبداع حيث إن الملحنين يقتلون الإبداع في دواخلهم ويجرون خلف الأغنية المشهورة وضاعت هوية الملحن، ونسوا هويتهم بعد مدرستهم، ليدل على الانحدار الموجود المعدوم المكرور، واعتبر أن اختيارات المشرفين على مهرجان الجنادرية صائبة لأن لديها الخبرة الطويلة، مضيفا «القريب من العين هو القريب من القلب لا أتوقع أن المشرفين في الجنادرية نسوا أحدا لأن الجميع إذا سنحت لهم الفرصة سيبادرون بالمشاركة»، وتمنى جميل محمود مزيدا من النجاحات والأهداف لمهرجان الجنادرية. مدارس مختلفة وعن الجانب الشعري للأوبريت تحدث الشاعر عبيد الدبيسي الذي سبق أن كتب أحد أوبريتات الجنادرية قائلا «مهرجان الجنادرية كان وما زال يأتي لنا بمدراس مختلفة فكل عام نشاهد مدرسة برؤية مختلفة وتلك المدارس الشعرية من أعرق المدارس كالأمير الشاعر خالد الفيصل والأمير بندر بن عبد المحسن وسعود بن عبدالله». وأضاف «الجنادرية اسم كبير لا تستقطب إلا الكبار، ولا يكتبها إلا الكبار، وكانت مميزة ورائعة»، وأكد أن التنوع السنوي جميل والأسماء مميزة والتي تلتقي في منبر إعلامي ثقافي كبير. واعتبر أن النصوص تشكلت كما تشكل الشعراء فاختلافهم أدى لاختلاف النصوص الشعرية بحيث لكل شاعر رؤية خاصة به واختلافها ينتج لنا أفكارا جديدة، حيث إن أوبريت هذا العام فرحة وطن يختلف عن ما قدم في وقت سابق، مبينا أنه ظهر بشكل جديد كما في أوبريت العام الماضي عندما طرح بشكل مختلف، واستدرك الشاعر الدبيسي «الجنادرية ليس عليها خوف ما دام الأمير متعب أحد أقطابها الذي يهتم بالشعر والأدباء في مؤسسة عسكرية». علامة مميزة وحول المكانة الفنية لأوبريت الجنادرية تحدث الناقد الفني والمسرحي الدكتور عبد الله العطاس قائلا «أوبريت الجنادرية أحد العلامات المميزة للفن السعودي»، لافتا إلى أن الأوبريت وجبة فنية سنوية تحكي جميع الفنون بدءا من الشعر مرورا بالألحان والأداء المسرحي والرقصات التي تمثل جميع مناطق المملكة، وانتهاء بالغناء الذي يشدو به عمالقة الغناء السعودي في منظر جميل يختلط فيه خبرة الكبار بحيوية الشباب». وأكد العطاس أن أوبريت الجنادرية يمثل دلالة واضحة على دعم الدولة للفنون بكافة أنواعها كونها تمثل ألوان التراث في بلادنا. واعتبر الأوبريت أحد أهم الأعمال التي تعبر عما يجيش في دواخل المواطنين من مشاعر حب فياضة تجاه هذه الوطن المعطاء، خصوصا أنها تربط الماضي بالحاضر في صورة جميلة خلاقة تتغير من عام لعام نحو الأفضل. وقلل العطاس من تأثر الأوبريتات القديمة بظهور أوبريتات حديثة، معللا ذلك بقوله «لكل أوبريت نكهته الخاصة التي تختلف عن الأخرى وطريقة تنفيذه، فأوبريت الجنادرية تعاقب عليه عدد كبير من نخبة الشعراء والملحنين والمطربين والممثلين والمخرجين والفرق الاستعراضية، لذلك فكل أوبريت له ميزته الخاصة»، معترفا أن بعض الأوبريتات مازالت محفوظة في ذاكرة ووجدان الجمهور السعودي، كونها مقطوعات غنائية ساحرة وخيالية الجمال». تجربة إخراجية وحول المستوى الإخراجي للأوبريت وتجربته الإخراجية الخاصة تحدث المخرج السوري نجدة إسماعيل أنزور (صاحب تجربة ثرية في إخراج أوبريت من أوبريتات الجنادرية) قائلا «العمل في الأوبريت يعطي المخرج مساحة كبيرة من الإبداع وخلق حالة جديدة غير مسبوقة»، موضحا أنه «قبل خوضه للتجربة الأولى في إخراج الأوبريت الأول له (خيول الفجر) اطلع على كل الأوبريتات السابقة، ومن ثم حاول صياغة أسلوب جديد في الأوبريت بشكل يتماهى مع النص والمرحلة الزمانية والمكانية. وتضمن الأوبريت إضافة إلى اللوحات الإنشادية أربع مشاهد تمثيلية كتبها نخبة من كبار الكتاب المتميزين في الوطن العربي وشارك في الإنشاد عدد من الفنانين وهم: محمد عبده، السوري صباح فخري، الكويتي أحمد الحريبي، والمصري سعيد حافظ، وأدى المشاهد التمثيلية عدد من نجوم الدراما العرب بمشاركة فرق الفنون الشعبية من أذربيجان وأندونيسيا والمغرب وفلسطين في صورة تعطي المكانة الكبيرة للمملكة في قلوب كل العرب والمسلمين. وشدد أنزور على أن أوبريت الجنادرية رسالة فنية تحمل في ثنياها رسالة المملكة المملوءة بالحب والسلام نحو العالم أجمع عارضة جزءا من تراثها المجيد وحاضرها الزاهر ومواقفها الإيجابية. ولفت أنزور إلى أن هناك معايير للأوبريتات الغنائية في المناسبات الوطنية منها الرسالة التي تحملها الكلمات للشعب من جهة وللعالم من جهة أخرى، موضحا مواقف البلد من القضايا التي تمر بها المنطقة عبر الكلمة واللحن والأداء، إضافة لتعبير صادق عن مشاعر الحب تجاه وطنهم، مضيفا «الأوبريت يحمل تراث المملكة في صورة فنية جديدة وغير مألوفة تستحضر معها رسائل أخرى محلية وعربية وعالمية». ويرى أنزور أن هناك مشكلة كبيرة تواجه الأوبريت وهي التقليدية التي أصبح يظهر به الأوبريت من الناحية الإخراجية وهو ماقد ينمط الأوبريت، مطالبا بإشراك روئ إخراجية مختلفة في الأوبريتات المقبلة حتى تعطي صورا مختلفة ولا تقع في نمطية واحدة. قرداحي والخازن ووحدة وطن.. ساري تابع كل من الإعلامي اللبناني جورج قرداحي والكاتب والصحافي جهاد الخازن الأوبريت الافتتاحي لدورة المهرجان الخامسة والعشرين «اليوبيل الفضي» العام الماضي ضيفين على المهرجان وهو الذي قدم فيه أوبريت «وحدة وطن» من أشعار ساري وألحان ماجد المهندس وناصر الصالح، وشدو كل من محمد عبده، ماجد المهندس، عبد المجيد عبد الله، عباس إبراهيم، يارا، فدوى المالكي، والطفل خالد الجيلاني .. ويقول جورج قرداحي: كثيرة هي المزايا التي يقدمها هذا المهرجان من دورة إلى أخرى وأتابع الأوبريت الافتتاحي لهذا المهرجان بشكل مستمر وارى أن النص للشاعر ساري كان لافتا وجاء بشكل ملحمي يتحدث عن المملكة بشكل يترجم ما بلغه هذا البلد من مجد. ويقول جهاد الخازن الحديث عن الوطن شعرا.. في لوحات وطنية بديعة كما جاء في أوبريت «وحدة وطن» حديث يشي بالحب بل وعمق هذا الحب الرابط بين الوطن والمواطن وأن هذا البلد يتجه في المنحيين كصاروخ نحو العصرنة وفي اتجاه آخر يرتبط بجذوره وتراثه فالأوبريت الذي كتبه ساري وتعامل معه موسيقيا ماجد المهندس وحمل عبء قيادة الغناء فيه كبار تقدمهم محمد عبده. المستوى العام للأوبريت الذي شاهدته أكثر من جيد ويحكي جمال التجربة الإبداعية مع الفنون الموسيقية في المملكة العربية السعودية. أخيراً الأربعاء المقبل سنلتقي مع أوبريت جديد بعنوان «فرحة وطن» من أشعار عبدالله الشريف وألحان صالح الشهري ورابح صقر ويتقدم الجميع لأدائه الفنان محمد عبده.