من المقولات الشائعة في الكتابات الفلسفية العربية المعاصرة التي مازالت تتردد وتتواتر مقولة «لا يوجد فلاسفة في العالم العربي الحديث، وإنما هناك مشتغلون بالفلسفة وبحقل الدراسات الفلسفية لا غير». ولعل أسبق من أشار إلى مثل هذه المقولة الدكتور جميل صليبا صاحب كتاب (المعجم الفلسفي)، حيث اعتبر سنة 1962م أن العالم العربي الحديث لم يتمخض بعد عن فيلسوف عربي كبير من طراز أفلاطون وأرسطو وابن سينا وابن رشد وليبنز واسبينوزا وكنت وبرغسون، ومعظم من اشتهروا فيه حتى الآن لا يعدون في نظره إلا كواكب خفاقة تستضئ بنور غيرها فتتلألأ دون أن تضيء العالم بأشعتها الذاتية إلا قليلا. وقبل هذا التاريخ كانت للدكتور طه حسين إشارة مغايرة لتلك المقولة، يبدو أنها لم يجر التوقف عندها كثيرا في الكتابات الفلسفية العربية، وجاءت هذه الإشارة من الدكتور طه حسين حين شارك مع الشيخ مصطفى عبد الرازق والمستشرق باول كراوس في مناقشة رسالة الدكتوراه لعبد الرحمن بدوي حول (الزمان الوجودي) سنة 1944م، وأثناء المناقشة علق طه حسين بقوله (لأول مرة نشاهد فيلسوفا مصريا)، وفي اليوم التالي نقلت هذه العبارة على لسان طه حسين صحيفة الأهرام المصرية. وعبد الرحمن بدوي الذي نقل هذه الواقعة في مذكراته (سيرة حياتي)، ذكر أيضا على لسان باول كراوس إنه اعتبر أن الرسالة تجتاز القرون لتلحق بكبار الفلاسفة والمتكلمين في القرون الثالث والرابع والخامس والسادس للهجرة. مع ذلك فإن الدكتور محمد عابد الجابري حين ناقش رسالة بدوي التي صدرت في كتاب سنة 1945م أصدر عليها حكما قاسيا يسلب من صاحبها صفة الفيلسوف، ويضعه في مكان آخر بعيدا عن هذه الصفة، وأشار الجابري إلى هذا الموقف النقدي في كتابه (الخطاب العربي المعاصر.. دراسة تحليلية نقدية) الصادر سنة 1982م، فبعد مناقشته لكتاب بدوي ختم الجابري كلامه بالقول: نعم لقد ثارت الفلسفات الوجودية في أوروبا ضد العقل، لكن لا العقل هكذا بالإطلاق، بل ضد نوع من الفلسفات العقلية هو بالذات المثالية الألمانية وعلى رأسها مثالية هيجل، أما صاحبنا ويقصد بدوي فقد نقل المعركة من معركة ضد المثالية إلى معركة ضد العقلانية عموما، بل ضد العقل في كل زمان ومكان. وفي وقت آخر، توقف الكاتب المغربي عبد السلام بن عبد العالي أمام المقولة السالفة الذكر: «هل يوجد فلاسفة في العالم العربي أم لا ؟»، وكانت له وجهة نظر أشار إليها في كتابه (منطق الخلل) الصادر سنة 2007م، بقوله: لن نتساءل عن ما إذا كان العالم العربي قد عرف أو يعرف الآن فلاسفة بالمعنى التقني للكلمة، فهذا النوع من التساؤلات في نظره لا يفضي إلى أجوبة، وغالبا ما يفتح أسئلة أخرى أشد تعقيدا، والسبب الأهم عنده لاستبعاد هذا التساؤل هو أن الفلسفة ليست مجرد أسماء أعلام، ولعلها ليست أساسا أسماء أعلام بقدر ما هي مناخ فكري، فقد تكون هناك فلسفة من غير أن يوجد فلاسفة بالمعنى التقليدي للكلمة. وما يلفت الانتباه في هذه النقاشات هو هذا الإصرار الشديد على عدم الاعتراف بوجود وظهور فلاسفة في العالم العربي الحديث، والتمسك بهذا الموقف حتى مع وجود وظهور أشخاص يعترفون لأنفسهم بهذه الصفة، كما هو الحال مثلا عند الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي لا يرى أنه أقل شأنا من الفلاسفة الأوروبيين أنفسهم. هذا الإصرار والتمسك به، يجري في ظل الاعتراف بوجود علماء وأدباء ومفكرين ومؤرخين في العالم العربي، والسؤال هو: لماذا لا يجري الاعتراف إذن بوجود فلاسفة؟. والملاحظ على هذا الإصرار بهذه الشدة، ليس فقط إنه لا يعترف بوجود فلاسفة، وإنما لا يراد الاعتراف أساسا بوجود فلاسفة الآن، ولا حتى مستقبلا، في موقف يعكس إما عدم الثقة بالذات، وإما الإقرار بعجز وضمور الثقافة والمعرفة في المجال العربي. وإما أن هذا الموقف يعكس نمط العلاقة التي تجري بين المفكرين العرب، حيث لا يريد أحد الاعتراف لآخر بالتفوق من خلال إعطائه صفة الفيلسوف بوصفها تعني أعلى درجات التفوق.. واللافت والغريب في الأمر، إننا في الوقت الذي لا نرى أحدا يعترف بإعطاء صفة الفيلسوف لأحد آخر، يجري الاعتراف بهذه الصفة متى ما جاءت من الغرب ومن أحد الغربيين، وكأن هؤلاء هم المخولون بإعطاء هذه الصفة أو سلبها، ولا أدري لوجود فلاسفة هناك أم لا !. لكن الذي أراه أنه حان الوقت للتخلص من هذه العقدة التي تسلب من الإنسان أقوى ما يملكه وهي الثقة بالذات، وعلينا الاعتراف بظهور فلاسفة بيننا، ولا ينقصنا عن الآخرين شيء، وما يملكه الآخرون بإمكاننا أن نملكه نحن أيضا إذا أردنا وسعينا سعينا، وأن نغير من نظرتنا لأنفسنا. ومن طريقة تعاملنا مع بعضنا. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 115 مسافة ثم الرسالة