ثمة مأزق آخر وقع فيه محمد عابد الجابري وقوعا لا يليق به، فلنستمع إليه، يقول : « فلنسلم مع عبد الرحمن بدوي أن منطق عدم التناقض لا يصلح إلا في مملكة الفكر، وليس في مملكة الوجود... ولكن ألا يبقى مع ذلك أن خطابه، أي كلامه عن الوجودية جزءا لا يتجزأ من مملكة الفكر.. وإذا كان الأمر كذلك وهل الكلام شيء آخر غير التعبير عن الفكر؟ فهل يجوز له عدم التقيد، حين الكلام، بمبدأ عدم التناقض؟». يريد الجابري من بدوي أن يقول كلاما متناقضا بالضرورة لأنه لم يلق اعتبارا لمنطق عدم التناقض!. فبدوي حينما دعا إلى التعاطي مع «الوجود» بمنطق الوجدان الذي لا يرفع التناقض والاختلاف، بل يقر به، في مقابل منطق الهوية أو عدم التناقض الذي يقتصر تعامله مع مملكة الفكر، فقد فهم الجابري أن على بدوي أن يتخلى نهائيا عن العقل، في كل لحظة من لحظات حياته وتفكيره وفي كتاباته حتى ولو كانت من نوع الدفاع والبرهنة والدعوة إلى الوجودية. إن عبد الرحمن بدوي لم ينكر العقل تماما، بل أنكر (سيادة) نمط من المعقولية التصورية التي تنفي كل تنوع وتناقض واختلاف؛ معقولية تجريدية «تنتزع النفس من تيار الوجود الحي وتعزلها في مملكة أخرى تذهب منها الحياة المتوترة الحادة ولا يسودها فعل ولا حركة، بل صيغ خارجية عن الوجود لا تنبض بدمه» كما يقول بدوي في كتابه ( الزمان الوجودي ). فلنعد إلى نص الجابري، يقول: «وهل الكلام شيء آخر غير التعبير عن الفكر ؟». ما هو الفكر عند الجابري؟ إنه ما يستهدي بمبادئ العقلانية الأرسطية الثلاثة: الهوية، عدم التناقض، والثالث المرفوع. وإذا أعدنا صياغة سؤال الجابري بناء على ما سبق لانكشف لنا زيف هذا السؤال و «تهافته»، وهو هكذا: ( وهل الكلام شيء آخر غير التعبير عن مبدأ عدم التناقض ؟! ). هل يفهم الجابري «الكلام» بهذا المعنى فعلا؟ أم أنه استعجل؟ أم تراه تعمد ذلك من أجل فقط بيان «تهافت بدوي»؟ وهل الشعر ( وهو كلام ) تعبير عن عدم التناقض ومنطق الهوية ؟ وهل الأدب والفن كذلك ؟ وأين الجابري من الدراسات اللسانية المعاصرة والتي تجاوزت هذه المبادئ الكلاسيكية وأثبتت قصورها في تفسير وفهم اللغة ؟ بل وأين هو من الفلسفة المعاصرة وموقفها من العقلانية الدوغمائية التي تجعل للعقل مرجعية ثابتة وواحدة تتجلى في مبادئ الفكر التي أرساها الفكر الإغريقي ؟ لقد تحامل الجابري على بدوي كثيرا، ولو سايرناه في منطق التحامل هذا فسوف نمحو بجرة قلم عددا كبيرا من عظماء فلاسفة العالم؛ فإذا كان بدوي ظلاميا لأنه وضع للعقل (بمعناه الكلاسيكي) حدودا لا يتجاوزها وهي مملكة الفكر لا مملكة الوجود، فقد فعل الفيلسوف الألماني كانط ما هو أشد من هذا، وكانط بالمناسبة هو من افتتح مشروع الفلسفة النقدية بكتابه الشهير نقد العقل المحض والذي يمثل خلاصة العقلانية الحديثة، وقد استعار الجابري هذا العنوان في كتابه الشهير أيضا نقد العقل العربي. وإذا كان بدوي يقول بمنطق الوجدان فقد فعل فلاسفة الحياة؛ نيتشه وشوبنهور ودلتاي وبرغسون وهيدجر ما هو أعنف من ذلك. وأما محاولة قراءة نص بدوي بالمنطق التقليدي فسوف ينتهي به إلى اعتبار لغة بدوي فارغة من المعنى، كما كان الوضعيون المناطقة يفعلون مع هيدجر وغيره من الفلاسفة. يقول سعيد توفيق في مقدمة مقال له عن هيدجر ما يلي : «إن الأسلوب التقليدي الذي نفهم به لغة الخطاب الفلسفي باعتباره خطابا يتوخى الدقة والوضوح وعدم التناقض، هذا الأسلوب سوف يحول دون فهم لغة هيدجر، بل وسوف يحاكمها باعتبارها كلاما خلوا من المعنى»، ثم يتساءل توفيق مع هيدجر «هل المنطق هو الوسيلة الوحيدة لبلوغ الحقيقة ؟ إن المنطق ما هو إلا تفسير واحد لطبيعة التفكير. بل إنه مضاد للتفكير في الروح الإنسانية والوجود فهو مجرد تفكير حسابي»، وهيدجر يتحدث هنا عن المنطق الصوري الذي كان وسيلة فضلى للفكر الميتافيزيقي الغربي الذي تأسس على نسيان الوجود أو الفرق الأنطولوجي بين الوجود والموجود. ورغم ذلك فإن خطاب بدوي قد يتوجه في كثير من الأحيان إلى متلق تقليدي، وسيكون خطابه هنا شارحا، إنه لا يزال بالفعل في مملكة الفكر.. ولكن ما أن يلج مملكة الحياة والوجود حتى يتحرر من تلك المبادئ الفكرية. وهكذا فعل هيدجر في محاضرته الشهيرة: ما الميتافيزيقا. حيث تناول العدم والقلق بمفاهيم غريبة عن المنطق التقليدي الذي سارع هذا الأخير إلى وصفها بالظلامية.. إن الجابري بوصفه مفكرا لا يزال يرتهن لعقلانية الحداثة سيكون بالتأكيد مرتابا من منجزات فلسفة ما بعد الحداثة والتي تعتبر الوجودية سلفا مباشرا لها، ولا يمكن تبرير ارتياب الجابري إلا بكونه دفاعا أيديولوجيا، أو انخراطا واعيا أو غير واع في سجال أيديولوجي لم تعد له اليوم مكانة في خطاب العصر. وقد تصلح أدوات الجابري النقدية لقراءة الفكر بوصفه خطابا منتجا أو عقلا مكونا، لا عقلا مكونا. فالفكر الفلسفي كنشاط إبداعي لا يرتهن لأية حدود وضوابط يقررها تصور معين للعقلانية. وفلسفة بدوي، أو الجوانب التي انتقدها الجابري في فلسفة بدوي هي الفكر كفاعلية ونشاط، أي المنهجية الشعورية أو الوجودية التي دعا إليها بدوي. وهي الآن منهجية تجد رواجا في الفكر المعاصر اليوم، وهي في الحقيقة ليست منهجا بقدر ما هي طريقة للرؤية وللمقاربة والتناول. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة