يوجد في حياتي كفيفان أحدهما التقطته بذاكرتي عبر نوادر قديمة ربما تعود إلى ربع قرن من الزمان، وأما الآخر فهو حقيقي واقعي من أستراليا وتحديدا في ملبورن. تزاملت مع الأخير صعودا إلى القطار، إذ نبقى نتحدث إلى أن يصل بنا القطار محطة المركز الرئيسي وسط ملبورن .. قادمين من شارع يقع على ناصية هضبة جميلة خضراء يخترقها القطار انحدارا إلى نقطة الوسط مرة أخرى. كان الكفيف يعرف أن القطار ينحدر وذات مرة قال لي «ها نحن ننحدر من شارع الأردن إلى الهضبة في يوم مطير وآخر أسئلته معي كانت على النحو التالي: قل لي من أين جئت هل أنت من جزر الفيجي قطعا أنت تعمل في مكان ما هل لديك صديقة هنا أو امرأة هو ذا القطار يوشك أن يقف أتقدم إليك باعتذاري لكثرة الأسئلة .. كان خفيف الظل أنيقا في مظهره وببلاغة يتحدث ويفيض إحساسا كأنه يراني ولا أراه،، ولم يكن يبدو أنه من شيء يعاني مطلقا،، وقد فوجئت به ذات مرة يضع حدا لكل صيغ النفاق الاجتماعي في داخلي. أعجبت بعصا خفيفة كان يحملها معه كيما يتحسس بها الأشياء قبل المرور بها برغم منزلقات الطريق التي يتركها دوما من ورائه المطر.. لم أكن أريد له السقوط مطلقا قبل الأسئلة.. فتقدمت إليه وقال لي «عرفتك»، وأسلمني يده بضع مرات كيما نصعد سويا، فيما عرفت لاحقا أنه يثمن معروفي إليه بإهانة غير مقصودة معه وفي النهاية فيما كنا نتحدث داخل القطار قال لي «اسمعني جيدا»، وبدأ يتحدث قائلا إنه سقط في الطريق الذي انتشلته منه هكذا قال لي «أنا مرارا سقطت في هذا المكان»، لأنني لا أذكر أنني رأيت شيئا ولا شهدت على شيء، ولكن عزائي في السقوط أنني لا أحس بأحد يرى سقوطي ممتعا إليه.. وهكذا فهمت من الكفيف أنني أمارس معه شفقة في غير محلها الصحيح، وهذا شيء يؤسفه ويزعجه الآن لأنه فعلا تجاوز تجربة السقوط وأخيرا وصل بنا القطار،، وتناولنا شايا على حسابه في مقهى جميل، ومنذ ذلك الحين تراجعت إلى الوراء، فيما كنت أستشعر عصاه تؤكد قياما لا صدام بطيه مع أحد يمر وقتئذ على الرصيف. وإلى الوراء هكذا تراجعت قليلا عنه، فيما أحس لأسئلته وقعا مصيريا في حياتي.. وأما عصاه فقد بقيت في ذاكرتي، واقتنيت لاحقا ومن قبل ثلاث عشرة عصا بغير ارتباط شرطي معه،، لأنني خائف أيضا من السقوط وجميعها موجودة بحوزتي منها واحدة ورثتها عن أبي وأما الأخريات اشتريتهن.. وأعجبت بالكفيف يمارس الإصرار وبقرار أكيد أنه لن يسقط وإذا سقط فلديه الاستعداد أنه سوف يقوم مرة أخرى،، وبرغم عصواتي الثلاث عشرة وبصري الذي من خلاله أرى الأشياء فأعترف أنني ربما لم أكن قد رأيت بما فيه الكفاية ولذلك يتضاعف الخوف داخلي من فكرة السقوط،، ربما لن أنحدر ولكنني سوف أسقط وإذا سقطت فليس عندي استعداد لأن أقوم مرة أخرى،، تلك هي الحقيقة من الداخل لإنسان عادي مثلي يرى ويحس ويتألم .. ولكنني لست نادما على شيء مطلقا وبغير حقد على الكفيف، أعتقد أن لديه الاستعداد فيما لو التقيته مرة أخرى أن يمشي بغير عصا وربما يركض ويلحق بالقطار أيضا لأنه سقط لمرات عديدة، ولكنه اكتسب مناعة ضد السقوط فقام واستقام وتحرر من الخوف لأنه دفع الثمن ورأى كل شيء بما فيه الكفاية من الداخل، درجة أنه الوحيد الذي يرى نفسه مبصرا في مدينة كل سكانها عميان.. [email protected]