يوجد عندي اسم وعنوان وجواز سفر قديم. أنجبني أبي ذات مرة على كبر وتقدمت به الأيام فتركني ومات، وأمي يتيمة جاءت من اليمن، ومن قبل أن تموت قالت لي: لست مريضة ولا حزينة والأطباء لا يستطيعون تمديد الحياة ولا أخذ شيء منها، وهكذا بدا لي منذ ذلك الوقت أنني أعيش في ظروف متقلبة بأقل وأضيق حدود التماس مع الآخر. عملت من وقت لآخر في التحرير الثقافي للكتب السائدة والخفية، وفقدت الكثير من أصدقائي القدامى الطيبين: ولدوا فعاشوا وتألموا فماتوا، ولا أزال إلى الآن أقرأ وأتذكر وأسافر وأرى وأعمل وأكتب، وبمنتهى السرية مع الذات ينتابني القليل من الحزن وأبحث عن شيء آخر. ذوت أيامي وما شاب شعر رأسي ونفسي خضراء جدا مثل جفاف فيفا، وأترك الباب بسهو مواربا وغير موارب كيما أتفق. استغفلني آخرون: أكلوا عرقي وتركوني على الحديدة مثل عظمة من غير لحم، ولا أتعاطى الأدوية، وأحب الشاي المصري في الخمسين، وما سحبت نفس حشيش مطلقا.. بحرا وجوا وبرا طفت العالم في ربع قرن، وركبت الحافلة ذات مرة من شارع الستين إلى عمق اليمن بمائة ريال سعودي فقط لا غير، وعشت في اليمن لقليل من الوقت، وارتقت بنا الحافلة فوق السحب، ورأيت من تحتي جنانا وشلالات تتدفق وفي قلبي خلتها بعمق المسافة جحيما، وما سقطت عن السلالم.. كنت خائفا من كل شيء داخلي وحولي، ولا أزال كذلك أيضا، وبهذه أو تلك أنتمي إلى فئات غير آيلة للانتحار من عدمه. طفت روما القديمة باحثا عن الرقعة التي اغتيل فيها ذات مرة يوليوس قيصر، ولاحقا راجعت كتبا لاتينية قديمة بهذا الصدد، ومررت في صباي ذات مرة بدول حزام الزيتون، وذات صيف سئمت الجنوب فانتقلت إلى الوسط.. وراعني هدوء قاتل في أحياء اليهود في فيينا. أكلني الناموس في الخرطوم على أيام السيول والطوفان، ولكنني نجوت من الملاريا، ورأيت ظلال لوحة الصرخة على جدارية قديمة في أوسلو، وطال قلبي اكتئاب شتوي حاد من نوعه في ملبورن وكوبنهاجن. سرقني لص مائة دولار في أديس أبابا، والتقيت بمواطن سعودي أقرضني ألف ريال، دفعتها إليه بطيب نفس على مسافة غرفتين من هذا المكان الذي أختبئ داخله الآن، ولا يزال يذكرني بتلك الألف، ومن قبل ذلك نشلني العسكر في مطار بغداد. صليت بالقرب من إخوتي الشيعة في النجف، وارتحلت ذات صباح قاصدا بابل ورأيت أخاديد الأنهار القديمة. وقفت تحت شجرة عملاقة وذاوية، ولكنها لم تسقط بعد، وقرأت بالقرب من أشجار الصفصاف البائدة «ذات تاريخ» فيما مضى من الوقت كل الأنهار كانت تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن.. تساءلت كثيرا عن الفائدة من تعب الإنسان الذي يتعبه تحت الشمس. عادت بي الذاكرة ولا أزال وقتئذ قائما في مدينة السحر هاروت وماروت إلى بلادي، حيث عملت في حقول مشمسة في محافظة صبيا وما وجدت جوابا لأسئلة التعب، وذات مرة أحسست بالغربة في مسقط رأسي (هنا)؛ لأنه لم يكن لدي عمل. رأيت الكثير من دراويش مصر ولبنان والهند واليمن يفترشون الشوارع، وذات مرة سمعت أحدهم من مصر في المقطم يقرأ قائلا «أنت الذي تحضرهم من المزابل، وإذا أردت لهم شيئا، فلسوف تجلسهم على عروش أيضا». وعظت نصارى في طريقي إلى «سن الفيل» ببيروت على مقربة من كنيسة السيدة العذراء، إنجيليا هكذا وعظتهم، وسألني الواد سيمون، بعد أن تناول قليلا من الماء قائلا: كيف يمكن للإنسان أن يكون سعيدا على الدوام. عملت في قرى متناثرة وعرقت كثيرا إلى أن طالني الرشح، وأحببت صبيا طوعا وكرها هكذا أحببتها أيضا، ومررت بالعيدابي على تل ربوة، وقلت لأصدقائي القدامى في فيفا: هل تدرون أني طفت العالم في ربع قرن هكذا وحدي. لقد بدأت أحكي لهم القصة نفسها ذات مرة قبل ربع قرن من الزمان، ولأكثر من جيل ونصف قرن من الزمان ولا أزال قائما أتذكر.. استمعوا ولكنهم غفلوا وتعبوا بعد أن لاكتهم الأيام فناموا، وانتهزت نومهم ذات قيلولة فخرجت إلى باحة وقت الظهيرة وكأنني أولد من جديد لقرن آخر. لن أحزن على شيء مطلقا، هكذا قلت يا ربي لن أحزن، وبفرح كثير وقفت تحت المطر وشممت أريج الشجر وارتمت عيناي بطي الغيول، وهي تتدفق من أعلى الجبل الى أسفل الوادي، وكان قلبي نشوان جدا من الداخل. لقد تذكرت أنني ذات مرة كنت قطرة ماء تدحرجت من غير قصد، فلماذا إذن أحزن؟.. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 265 مسافة ثم الرسالة