ما زالت ذكرى الأربعاء الأسود أو كارثة جدة الأليمة، باقية في أذهان من عاش المحنة أو فقد أحد أقاربه أو أصدقائه.. ففي ذلك اليوم المشؤوم باغت السيل العارم عددا من أحياء شرقي جدة، وتوغل داخل المنازل مخلفا الجثث، ولم يفرق بين الرجال والنساء والأطفال، وكانت رائحة الموت تفوح من كل بيت غمرته المياه أو مركبة قدر لها التواجد في طريق السيل، وأدمى الموقف حينها وما زال قلوب الملايين، خصوصا أن من بين الضحايا أسرا بكاملها مضت في غمضة عين، وتركت جراح لم تندمل في جسد الأحبة.. وهنا نتناول ثلاث حالات بقية ذكراها ماثلة في الأذهان وهذا فيض من غيض. يعد الباكستاني فرمان علي خان أحد النماذج المضيئة التي أشاد بها الآلاف خلال كارثة جدة، وهو صاحب القصة الشهيرة والعمليات البطولية حين ساهم في إنقاذ 14 من الأنفس كادت السيول تجرفها، لتبقى ذكراه خالدة في أذهان ما بقوا على ظهر البسيطة. وقوبل فرمان بتكريم مباشر وغير مباشر، من فئات المجتمع، فانتشرت رسائل في البريد الإلكتروني تشير إلى بطولته وتفانيه، كما أظهرت وسائل الإعلام تضحياته المشهودة، وكتبت المواقع والمنتديات الإلكترونية عن ذلك البطل الذي ضحى بحياته في سبيل إنقاذ أرواح الآخرين مجسدا بذلك أروع التضحيات. وشهد موقع التواصل الاجتماعي حملة ضخمة من الشباب السعودي بلغ عددهم أكثر من 25 ألف عضو، هؤلاء طالبوا بتكريم فرمان التكريم الأمثل، في الوقت الذي كرمت فيه الهيئات والمنظمات الإنسانية والخيرية الشهيد، فكفلت هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية أبناءه في باكستان، فيما زارتهم الندوة العالمية للشباب الإسلامي في مدينة سوات الباكستانية، وقدمت مساعدة مالية لأبنائه، فضلا عن إسهامها في بناء مسجد القرية المهدم منذ سنوات، وبناء مدرسة إلى جواره. ولفرمان ابنتان أخريان، زبيدة ومديحة سبعة وستة أعوام، على التوالي، وله أربعة أشقاء، وخمس شقيقات. وذكر والد فرمان عمر رحمن، أن ابنه كان يملك قلبا طيبا، ودماثة في الخلق، وسماحة، وعاش بسيطا يرعى بقالة والده الصغيرة في قريته، وكان بارا بوالدته حتى أنه اشترى لها دواء ليأخذه معه عند سفره، وقبل وفاته أوصى صديقه شاه خان بالمحافظة عليه وإيصاله لوالدته. حزن أصيلة: ما زالت أصيلة ذات 12 ربيعا، التي فقدت أسرتها المكونة من والدها ووالدتها وأشقائها الخمسة تتذكر بمرارة ذلك النهار المشؤوم الذي أودى بأسرتها في لمح البصر دون أن يبقي منهم أحدا. أصيلة التي عادت هذا العام إلى مدرستها الابتدائية بعد أن اضطرت العام الماضي إلى الابتعاد عنها، لم تكن تعلم بأن القدر يخبئ لها فاجعة لن يزول أثرها بسهولة، فقد كانت اللحظات الأخيرة التي شاهدت فيها عائلتها عندما تناولوا العشاء في الليلة السابقة للمطر لدى عمها مشهور، حيث اجتمع معهم أعمامها وأخوالها القادمون من محافظات عدة في المملكة، وحين همت العائلة بالمغادرة رفضت أصيلة أن تغادر معهم وجاءت إلى والدها وطلبت منه أن يسمح لها بالبقاء مع بنات عمها للعب واللهو والنوم، على أن يعود في اليوم الثاني لاصطحابها من منزل عمها فوافق الوالد، إلا أنه يعد بالطبع. في ذلك اليوم، كان علي بن قطين الذيابي ذو الأربعين عاما، في منزله الكائن أقصى غرب حي الحرازات، وكان بعيدا عن قلب الوادي تماما، إلا أن الذيابي فوجئ قبيل الظهر بالسيل يهجم على منزله، حتى أدرك أن المنزل سينهار لا محالة، فطلب من أبنائه الخمسة وزوجته أن يقطعوا معه الوادي للهروب إلى الجبل القريب، وحمل ما استطاع من الأطفال وطلب من الباقين أن يتماسكوا جيدا ولكن ومع وصولهم لمنتصف الوادي باغتهم السيل وابتلعهم جميعا وسط نظرات عامل المحطة المقابل لهم الذي روى لأسرته الموقف الحزين. يقول مشهور بن قطين، شقيق المتوفى: «كان علي شقيقي الأكبر وكان محبوبا من الجميع، ولقد اختاره الله إلى جواره شهيدا هو وأسرته، ورغم إيماننا بقضاء الله وقدره إلا أننا ما زلنا غير مصدقين ما حدث». ويستطرد قائلا: «استمرت محاولات البحث عن شقيقي وأسرته شهورا عدة ولم يتم العثور عليهم إلا بعد أشهر عدة من الكارثة، بعد أن استعانت وزارة الداخلية بخبير ألماني تمكن من تحديد مواقعهم المتفرقة، وكانت أسوأ اللحظات التي مررت بها حين أعود إلى المنزل بعد البحث المضني طوال النهار وأجد أمامي ابنة أخي أصيلة، وهي تنتظرني في فناء المنزل وتستحلفني بالله أن أصدقها القول، هل وجدتهم أم لا وهل ماتوا بالفعل جميعهم أم ما زال البعض منهم أحياء». أصيلة التي عانت كثيرا من تلك الأزمة اضطر أعمامها للاستعانة بطبيبات متخصصات في علم النفس لمساعدتها على تقبل الكارثة وعلى تقبل الوضع الجديد، كما خصص مستشفى الصحة النفسية طبيبة خاصة زارتها عشرات المرات وتمكنت من مساعدتها على تجاوز فقدها لأسرتها ولو بشكل نسبي، يقول عمها مشهور الذي أصر على احتضانها منذ اليوم الأول: لم يكن للمأساة تأثير على التأثر أصيلة وحدها، بل طال كل أفراد العائلة من أشقاء وأبناء عمومة وتباع: «أربعة أفراد من عائلتنا ما زالوا يراجعون أطباء نفسيين لمعالجة أثار الكارثة التي حلت علينا». وذكر مشهور في حديثه ل «عكاظ» أنه تقدم بدعوى قضائية ضد المتسببين في كارثة جدة، مبينا إحالة الشكوى إلى إمارة منطقة مكةالمكرمة وقال: «علمت بأن هنالك ستة أشخاص آخرين رفعوا دعاوى قضائية مماثلة، وقد طالبت في الدعوى تحميل مبلغ التعويضات المقدرة بمليون ريال على المتسبب ومعاقبتهم وفق الشرع الإسلامي، وما زلت انتظر الرد». ملك الإنسانية: رغم مرور عام على الكارثة، ما زال عبد الله بن داخل السلمي يتذكر كافة تفاصيل ذلك المساء المرعب الذي فقد فيه وفي لمح البصر زوجته وأطفاله الثلاثة وشقيقتيه، عندما داهمهم السيل داخل الشقة التي يسكنوها في حي المساعد الذي كانت في مواجهة ذلك الطوفان الساحق. عبد الله الذي تعرض لأزمة نفسية لم يخففها سوى إيمانه بالله ووقفة أشقائه وأقاربه معه، ورغم أنه ما زال متعلقا ببقايا أطفاله ويحتفظ بثياب ابنه الأكبر ثاني (خمسة أعوام) الذي كان مقررا ارتداءه في ذلك العيد المشؤوم، إلا أنه راض بقضاء الله وقدره . قصة عبد الله المؤمن، لا يمكن أن يتحملها إلا الرجل الصابر، ففي ذلك اليوم كان عبد الله مكلفا بالعمل في المشاعر المقدسة باعتباره منتسبا إلى قوات الطوارئ الخاصة، وكان في اليوم الذي سبق السيل قد أنهى استلاما لمدة 24 ساعة، وفق طبيعة عمله، وعاد من المشاعر المقدسة إلى جدة لرؤية عائلته المكونة من زوجته وأطفاله الثلاثة ووالدته وشقيقاته الأربع، وعندما وصل إلى بحرة أوقفه المطر المنهمر بشدة واضطر للانتظار محتميا بإحدى محطات الوقود على الطريق، إلا أن انتظاره طال لأكثر من ساعة وأحس حينها بالخطر وغادر المكان غير مبال بالمطر المنهمر والمياه. ما بين طرقات الحرازات الضيقة ومياهها الجارية، شق السلمي طريقه باتجاه المنزل ورغم التطمينات التي كانت ترده من زوجته بين الفينة والأخرى، إلا أنه كان يشعر بخطر ما يحوم حول أسرته فواصل طريقة حتى وصل إلى بداية شارع جاك، وعندما اقترب أكثر -وتحديدا على بعد مسافة من سور السجن- هاله منظر السيل العارم والهائج المندفع باتجاه منزله، عندها رفع السلمي الجوال وحاول الاتصال بأسرته، لكن دون جدوى نتيجة انقطاع أجهزة الاتصالات جراء السيل الذي أفسد كافة الخدمات العامة. كان الوقت ظهرا وكان الضرر واضحا أمام عيني السلمي، وحاول مرارا قطع السيل، ولكن في كل مرة يجد من يمنعه من المواطنين عن فعل ذلك، ويطمئنه على سلامة أسرته ما داموا داخل المنزل. عبد الله لم يستكن لمحاولات الثني والتطمينات، لأن شعوره كان يقوده إلى وجود خبر سيئ، فقرر أن يجرب طرقا أخرى لعلها توصله إلى أسرته، وبعد محاولات استمرت حتى الخامسة عصرا، تمكن من الوصول إلى شقته عبر إحدى آليات الدفاع المدني، وهنالك هاله المنظر المفجع الذي لم ينسه أبدا، ولم يخرج عن مخيلته، فقد شاهد أسرته الصغيرة المكونة من زوجته وأطفاله الثلاثة؛ ثاني (خمسة أعوم)، سجايا (ثلاثة أعوام)، المثنى (ستة أشهر، وشقيقتيه ممددين على الأرض، وباقي أخوانه ينتحبون ولم يستطع أن يقاوم فأخذ يجري بينهم ويسأل هل بقي أحياء في هذا الحي المنكوب. يقول صلاح (شقيق عبد الله)، وفق رواية والدته التي كانت في الشقة حين داهمها السيل، إن الوقت كان صباحا وكان نسيبي قادما للتو من جنوبي المملكة للسلام على زوجته (شقيقتي) ومكث عندهم حتى انتهى المطر، وغادر قبل السيل بدقائق ولم يكن يعلم أحد بالأمر. أضاف صلاح: بعد مغادرة الضيف بفترة قصيرة سمعت والدتي صوتا مريبا في خارج المنزل وحين فتحت النافذة هالها منظر السيل القادم وصاحت على بناتها وزوجة ابنها والأطفال للإسراع بالمغادرة، ورغم قربهن من المدخل، إلا أنهن أصررن على لبس العباءات قبل المغادرة وأحضرنها بسرعة، لكن السيل كان أسرع، حيث دخل من الباب والنوافذ فهرب الجميع إلى أحد المقاعد للاحتماء، إلا أنه كان أكبر من ذلك وتسبب في وفاتهن ونحسبهن عند الله شهداء بإذن الله. وتابع: ما زلت أتذكر بحزن بعد انتشال جثامين المتوفين من المنزل، حاولنا الاستعانة بإحدى طائرات الإنقاذ لنقل باقي الأطفال إلى مكان آمن بعيدا عن جثث أقاربهم، خصوصا أن الأطفال كانوا أكثر المفجوعين، إلا أنهم رفضوا الطلب، ومنها يجب على الجهات المختصة أن تحتاط لمثل هذه الكوارث، وتضع الخطط اللازمة للتقليل من خطرها في حال تكرارها.