تظل سيرة الأبطال باقية في أذهان كل الناس لسنوات طويلة، وفرمان علي خان، شهد أهالي جدة ببطولته، بعد إنقاذه أربع عشرة نفسا كادت السيول تجرفهم، وستبقى ذكرى فرمان في عقولهم ما بقوا على ظهر البسيطة. قوبل فرمان بتكريم مباشر وغير مباشر، من فئات المجتمع، فانتشرت رسائل في البريد الإلكتروني تصفق لبطولته وتفانيه، وأظهرت وسائل الإعلام تلك التضحيات، وكتبت المواقع والمنتديات الإلكترونية عن ذلك البطل. كما أن الهيئات والمنظمات الإنسانية والخيرية قامت بتكريم الشهيد، فكفلت هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية أبناءه في باكستان، وزراتهم الندوة العالمية للشباب الإسلامي في مدينة سوات الباكستانية، لتقدم مساعدة مالية لأبنائه، الذين كانوا ينتظرونه ليفرحهم بالهدايا والألعاب، وساهمت في بناء مسجد القرية المهدم منذ سنوات، وبناء مدرسة بجواره. لم يكن حزن والد فرمان الطاعن في السكن ووالدته الكبيرة وزوجته المكلومة على وفاته، لأنهم على يقين أنه مات شهيدا، لكن حزنهم لأنه كان يتمنى رؤية ابنته جويرية أربع سنوات، والتي لم يرها منذ ولادتها، وكان ينوي السفر لرؤيتها. ولفرمان ابنتان أخريان، زبيدة سبع سنوات، ومديحة ست سنوات، وله أربعة إخوة، وخمس أخوات. وذكر والد فرمان عمر رحمن أن ابنه كان يملك قلبا طيبا، ودماثة في الخلق، وسماحة، وعاش بسيطا يرعى بقالة والده الصغيرة في قريته. وكان بارا بوالدته حتى أنه اشترى دواء لوالدته ليأخذه معه عند سفره، وقبل وفاته أوصى صديقه شاه خان بالمحافظة عليه وإيصاله لوالدته. يستعيد والداه بعض ذكريات ابنه حيث قال : «لم تكن له أي مشاكل، رغم أنه أعزب في بلاد الغربة، وكان كثير الصلاة والذكر، ومن المواظبين على الصلوات جماعة في وقتها، إضافة إلى مساعدة كل من يريد الاقتراض من البقالة من المعسرين والفقراء من سكان الحي». الأربعاء المشؤوم ويلتقط صديقه شاه طرف الحديث ليكمل رواية اللحظات الأخيرة من حياة الشهم فرمان: «كأنه كان على موعد مع الموت، فأراد أن يستعد للقياه ويكلل حياته بمحاسن الأعمال، في ذلك اليوم المهول حيث يحكي جيرانه ومعاشروه في الحي الذي يقطنه، أنه ظل يوم استشهاده مستيقظا طوال الليل يقرأ القرآن الكريم، وقبيل أذان الفجر، خرج مسرعا إلى المسجد المجاور للبقالة التي يعمل بها كبائع، وبعد الصلاة عاد إلى البيت وكان في قمة النشاط والانشراح والبشاشة، مستنير الوجه يكثر من ذكر الله، يداعب أصدقاءه، وكأنه يودعهم». لم يكمل بعد سنته السادسة في السعوديه والتي كان يمني النفس في أن تكون نهايته مع أهله وبناته في بلده لكن القدر كان أسرع من أمانيه ففي يوم الاربعاء المشؤوم كان على موعد مع سيول جدة ؛ليكون هو أحد الرجال الذين ضحوا بأنفسهم ليحيا أربعة عشر شخصا وليهزم الفساد الذي فاحت رائحته على إثر كارثة جدة . وحين دهم السيل الحي كان في مقدمة المهرولين لإنقاذ المحتجزين، وقد حاول أقرباؤه أن يمنعوه، ولكنه أصر على أن يسطر معاني البطولة في اليوم الرهيب، حيث لم ينتظر فرمان قرارا من مسؤول ولا حضورا إعلاميا ولم يسع إلى موسوعة جينس ليحطم رقما قياسيا في الإنقاذ، بل استخدم دواليب سيارات وحبلا وألواحا خشبية لإنقاذ 14 نفسا تستغيث، وحينما هم بإخراج الشخص ال15 جرفه السيل محتضنا الحبل الذي أنقذ به أرواح غيره. أربع عشرة مرة يربط الحجارة في طرف الحبال ويرميها للمستغيثين، وتضربه أمواج السيل وتحاول أن تجرفه ولكنه يتشبث فيوفقه الله في انتشالهم واحدا بعد الآخر ، فيزمجر السيل وتتلاطم أمواجه في وجه فرمان ، أربع عشرة مرة تهزم إرادة فرمان إرادة السيل، فيبيت الأخير النية ويتحين الفرصة، وحين يختل توازن فرمان وهو ينقذ الضحية الخامسة عشر ة وفي طرفة عين ينقض عليه السيل ويجرفه إلى حيث ينال ثوابه في الآخرة إن شاء الله. بذرة التضحية لم يعبأ السيل بأن الشهيد بإذن الله حاصل على شهادة جامعية وشهادة في فن الكاراتيه ولديه العديد من الشهادات في الأعمال التطوعية في باكستان، وقد راقبه وهو يخرج من منزله في الكيلو 13 محاولا إيجاد ألواح خشبية كان يمدها ليتشبث بها الغرقى، و إطارات سيارات و حبل غير مبال بغدر السيل، أو وجود شحنات كهربائية محتملة بين أمواجه. لقد أتت بذرة التضحية التي أرساها الإسلام في نفوس أتباعه من عرب وعجم أكلها في محنة هذا السيل، وأنبتت أمةَ الإسلام الباسقة ولا تزال أمثال البطل الشهيد الباكستاني فرمان خان، الذي ضحى بنفسه التي بين جنبيه في سبيل نجاة أنفس لا يعرفها ولم يجتمع معهم بنسب ولا مصلحة دنيوية، ولكنها الشهامة والرجولة، لقد قدم الغالي لينال الأغلى، وباع النفيس ليشتري الأنفس في الجنة. وإن كان السيل قد أسدل الستار على حياة بطلنا الشهيد، فإنه لم ولن يسدل الستار على ذكراه التي يجب أن تمتد لتشمل الإحسان إلى بنياته الثلاث فمن حقهن ليس فقط بمليون ريال أسوة بشهداء المملكة، بل لا نجاوز الحق إذ نقول حقهن في أربعة عشر مليون ريال، أنقذ والدهن حياة أصحابها من الغرق، ولكن المطالبات امتدت لتصل منحهن الجنسية السعودية وإطلاق اسمه على أحد شوارع جدة أوميادينها. تكريم التضحية وتوالت التكريمات بحق البطل الشهيد وأهله وأبنائه حيث منحت الحكومة الباكستانية زوجة وبنات الشهيد الباكستاني «فرمان علي» قطعة أرض في مدينة إسلام أباد، ومبلغ 500 ألف روبية باكستانية عرفانا منها بالدور البطولي الذي فعله الشهيد أثناء وقوع كارثة سيول جدة. وإنقاذه 14 شخصا من الموت والغرق، قبل أن يسقط في المياه ويلقى حتفه وهو يهم بإنقاذ حياة غريق آخر. واجتمع وزير المغتربين الباكستاني بوالد ووالدة وشقيقة الشهيد، وشقيق زوجة البطل الباكستاني وأعلن خلال اللقاء تقديم الوزارة قطعة الأرض والمبلغ المالي تثمينا منها للدور العظيم الذي أبداه الشهيد وإنقاذه عددا ممن احتجزتهم السيول من الموت المحقق. ورافق الوزير الباكستاني أسرة فرمان علي لمقابلة السفير السعودي في باكستان الذي استقبلهم وعبر لهم عن مواساة المملكة العربية السعودية لهم حكومة وشعبا، وأخبرهم عن آخر التطورات، مؤكدا لهم أن الحكومة السعودية تدرس الملف الخاص بالشهيد البطل وسيتم إطلاعهم قريبا عن ما يتخذ من إجراءات، وطالبت بعض الأصوات بالنظر في منحه تكريما تقديرا لبطولته ووطنيته بالرغم من انه لم يمض في السعودية سوى ست سنوات. وكانت هيئة الإغاثة الإسلامية والندوة العالمية للشباب الإسلامي قد زارت أيضا أسرة الشهيد في باكستان وجمعت بعض التفاصيل عن حال الأسرة، وأعلنت عزمها تقديم كل الدعم لأسرة الشهيد الباكستاني مثمنا دوره البطولي النادر. لتبقى أسطور فرمان خالدة في ذاكرة أهالي جدة لن تمحى بمر السنين وستظل مضرب الشجاعة والوفاء والشهامة لمسلم ضحى بحياته من أجل إخوته وقت الشدائد والمحن .