يا لتدابير القدر، فلقد كتبت في هذه الزاوية في «عكاظ» قبل 7 سنوات تقريبا وعلى وجه التحديد في العدد 941 بتاريخ 22 ذي القعدة 1424ه الموافق 15 يناير 2004م مقالة تحت عنوان «الشورى يرفض» . وذلك في معرض التعليق على رفض مجلس الشورى لمقترحات بالإعفاء من الضريبة لمدة 10 سنوات للمستثمرين الأجانب في المناطق الريفية والنائية، تشجيعا لهم على عدم التمركز في المدن، ولكن المجلس رفض الاقتراح حيث لم يحظ بغير 58 صوتا من 150 وهو ما يدل على أن الوعي بمثل هذا النوع من التنمية كان ضعيفا للغاية في ذلك الوقت. ورغم مرور خبر التصويت السلبي على ذلك الاقتراح في وسائل الإعلام مرور الكرام حينها إلا أنني رفضت ككاتب رأي ومتخصص في هذا النوع من التنمية نتيجة ذلك التصويت جملة وتفصيلا من منطلق أن إعطاء المناطق الريفية والنائية أية تفضيلات ضريبية أو محفزات أخرى لتوطين الاستثمارات الأجنبية أو المحلية في المناطق الريفية والنائية لا يدخل في باب المحاباة والتمييز بقدر ما يدخل في باب الضرورة والترغيب لما في التوطين في تلك المناطق من مخاطر كبيرة على الاستثمار سواء المحلي منه أو الأجنبي لعدم تكامل البنى الأساسية فيها وعدم توافر الأيدي العاملة المدربة تقريبا، ولذلك هو في الحقيقة إجبار للمستثمرين على تحمل أعباء إضافية قد تفوق حجم الضرائب الضئيلة التي يدفعونها في حالة توطين استثماراتهم في مراكز التجمعات الحضرية الكبيرة، إضافة إلى أن مثل هذا الاستثمار هو في الحقيقة فائدة صافية للمناطق الريفية بسبب ما يعرف اقتصاديا بتأثير الجوار الإيجابي Spell Over Effect ، وما يتبعه من مزايا اقتصادية وأمنية لا حدود لها. ولذلك لم يفتني في تلك المقالة توجيه عناية ولاة الأمر في هذه البلاد الكريمة إلى تلمس الخلل الذي بدا واضحا من خلال التصويت في تركيبة مجلس الشورى المناطقية آنذاك ودعوتهم للنظر بعين العطف في أمر زيادة حجم تمثيل سكان الأرياف في المجلس (من سكان الأرياف أنفسهم) لا من المنتمين إليها تاريخيا أو قبليا أو أسريا ولا يربطهم بها حاليا أي رابط، وذلك حتى تصل لولاة الأمر آلام وآمال المواطنين، كل المواطنين، عبر القنوات الرسمية التي لم توجد أصلا إلا لإيصال أصواتهم. ولم تمر تلك المقالة مرور الكرام فقد اتصل بي في اليوم التالي للمقالة عضو مجلس الشورى الذي تزعم عملية إسقاط الاقتراح وأخذ يرعد ويزبد على الهاتف ويقول بأنه حمى البلاد من التستر والاحتيال بمساهمته في إسقاط الاقتراح، فأجبته بأن بإمكانه أن يرد على المقالة بشكل رسمي لأن حق الرد مكفول في كافة وسائل الإعلام السعودية للجميع مع احتفاظي بحقي أيضا بالتعليق على رده، وعندها حول مجرى المكالمة بسؤالي عن نفسي من أنا؟ وما هو منصبي؟ ..إلخ. وعلى أية حال فقد أنهى المكالمة ولم يرد على المقالة ولم أشر إلى مكالمته حتى هذا اليوم. وما كنت لأشير إليها أبدا لولا قراءتي منذ أيام في وسائل الإعلام ومنها «عكاظ» لهذا الخبر: «أوصى مجلس الشورى بأن يمول صندوق التنمية الصناعية أصحاب المشاريع الواقعة في المناطق الأقل نموا بنسبة 75 في المائة من إجمالي تكلفتها، وتحديد سداد القرض على مدة تصل إلى 20 عاما يتخللها مهلة تعطى لصاحب المشروع بما يقارب خمس سنوات». وجاءت التوصية ضمن اقتراح للجنة الشؤون الاقتصادية والطاقة لإعطاء المناطق «الأقل نموا» حوافز إضافية يستفيد منها «جميع المستثمرين» لتنفيذ استثماراتهم، لإيجاد توازن في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لجميع المناطق والحلول المناسبة والفعالة للبطالة والتقليل من الهجرة للمدن الكبرى تحقيقا للتنمية المستدامة. وأوضحت اللجنة أن المناطق المشمولة في هذا المقترح هي حائل، جازان، نجران، الحدود الشمالية، تبوك، الباحة، والجوف. فما الذي جرى خلال ست سنوات ليحدث كل هذا التحول من النقيض إلى النقيض في موقف الشورى من التنمية الريفية والمناطقية؟ لا أريد الخوض في التغير الذي طرأ على تركيبة المجلس الداخلية ومنها «لجنة الشؤون الاقتصادية والطاقة» على وجه الخصوص، لأنه كان نتيجة لتطورات أكبر حدثت على مستوى البلاد وبدأت بمبايعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بتاريخ 26 جمادى الثانية 1426 ه الموافق 1 أغسطس 2005م ملكا للمملكة العربية السعودية، والذي كان واضحا في توجهاته التنموية نحو الأرياف والمناطق البعيدة والفئات الاجتماعية الأقل حظا حتى قبل توليه مقاليد الحكم بزيارته الشهيرة سنة 1421ه لجازان أثناء ابتلائها بوباء حمى الوادي المتصدع وتجوله بين المرضى دون أن يغطي أنفه وفمه بالقناع الطبي الواقي كما فعل بعض الوزراء المرافقين. وزيارته الشهيرة أيضا لبعض الأحياء الفقيرة في مدينة الرياض مساء الأربعاء 15رمضان 1423ه الموافق 1 أغسطس 2002م. وما لبث بعد توليه الحكم أن وضع حجر الأساس بتاريخ 20 ذي القعدة 1426 ه الموافق 20 ديسمبر 2005م لمدينة الملك عبد الله الاقتصادية في رابغ كمقدمة للبدء في تأسيس عدة مدن أخرى تم توزيعها على مختلف مناطق المملكة. ثم ما لبث أن أفصح بوضوح عن توجهه لتنمية «المناطق الأقل حظا» من خلال خطبته الشهيرة يوم 13 شوال 1427 ه الموافق 5 نوفمبر 2006م أثناء زيارته الثانية لجازان ووضعه حجر الأساس لعدد من المشاريع التنموية منها مدينة جازان الاقتصادية حيث قال: «من دواعي سروري العظيم أن أكون في جازان بين هذه الوجوه الكريمة المضيئة بالولاء للعقيدة والمحبة للوطن، ومن دواعي فرحتي البالغة أن أبشركم أن مستقبلا زاهرا بإذن الله ينتظر هذه المنطقة الحبيبة من المملكة من الازدهار الصناعي ومن النماء الزراعي ومن الريادة في النقل البحري بالإضافة إلى كل التجهيزات الأساسية الضرورية لتنمية شاملة تعم جازان من أقصاها إلى أقصاها.. لقد تأخرت مسيرة التنمية في جازان في الماضي لظروف لم يكن لأحد يد فيها إلا أن دولتكم عقدت العزم على إنهاء هذا الوضع، باختزال المراحل، ومسابقة الزمن، وإعطاء جازان عناية خاصة». ورغم تتابع زيارات خادم الحرمين الشريفين لمختلف المناطق والإعلان عن مشاريع تنموية ومدن اقتصادية جديدة إلا أن جازان حظيت بزيارة ثالثة سنة 1430ه بعد تحرير جبالها الجنوبية والشرقية من آخر فلول المتسللين.. ولذلك لم تزد توصية الشورى بتمييز بعض المناطق واعتبارها «أقل نموا» وتقديم حزمة من المحفزات للاستثمار عن كونها تحصيل حاصل وتقرير لواقع يعيشه المواطنون ويرونه تطبيقا عمليا واضحا. وبصرف النظر عمن وقف خلف الاقتراح الذي تبناه الشورى سواء كان الهيئة العامة للاستثمار أو شعبة الخبراء في مجلس الوزراء أو وزارة الاقتصاد والتخطيط أو الغرف التجارية التي تعقد الآن الندوات واللقاءات بشأنه، إلا أن المهم هو أن اعترافا كاملا بحاجة بعض المناطق في المملكة لمزيد من الاستثمار أصبح واقعا وحديثا يوميا يتداوله الناس على أوسع نطاق إعلامي واجتماعي. ويبقى أن ننظر في مقالة قادمة في التعريفات الأولية والاستراتيجيات اللازمة. فالمحفزات لا تقدم هكذا بل ضمن رؤية واضحة وخطة تنموية مناطقية متكاملة. كما أن التعريفات والتصنيفات والمعايير التي يتم اختيار مناطق أو مدن أو أحياء بعينها بموجبها لتصنف ضمن «الأقل نموا» تحتاج لمزيد من الإيضاح حتى يمكن الارتكاز عليها في توزيع المشروعات التنموية مناطقيا بما يكفل العدالة والمساواة بين الجميع. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة