وعدت في معرض التعليق على توصية مجلس الشورى بشأن تمويل صندوق التنمية الصناعية أصحاب المشاريع الواقعة في المناطق «الأقل نموا» بالنظر في التعريفات الأولية والاستراتيجيات اللازمة، وفي المحفزات التنموية وأساليب تقديمها ضمن رؤية واضحة وخطة تنموية مناطقية متكاملة. كما ألمحت إلى أن التعريفات والتصنيفات والمعايير التي يتم اختيار مناطق أو مدن أو أحياء بعينها بموجبها لتصنف ضمن «الأقل نموا» تحتاج لمزيد من الإيضاح حتى يمكن الارتكاز عليها في توزيع المشروعات التنموية مناطقيا بما يكفل العدالة والمساواة بين الجميع. والحقيقة أنني فوجئت قبل صدور توصية الشورى بأيام وأثناء لقاء مع رئيس الهيئة العامة للاستثمار السيد عمرو الدباغ بإعلانه أمام الحضور في منتدى عكاظ بأن الهيئة كانت وراء مبادرة الاستثمار في المناطق «الأقل نموا». وبالطبع لم أتمكن من التعليق على كلام الضيف لضيق الوقت المتاح من ناحية ولعدم تأكدي من استخدام مثل هذا المصطلح على المستوى الوطني. وهذا ما عانى منه أيضا بعض أعضاء مجلس الشورى الذين أبدوا تذمرهم من استخدام مصطلحات غير واضحة لتصنيف المناطق تنمويا. فقد اعتدنا كاقتصاديين على التعامل مع هذا المصطلح «الأقل نموا» على المستوى العالمي في إطار تمييز ثلاث مجموعات من الدول هي الدول المتقدمة Developed countries والدول النامية Developing countries والدول «الأقل نموا» أو «أقل الدول نموا» Least developed countries ولضيق الوقت هنا لن أدخل في تفاصيل المعايير التي بنيت عليها هذه التصنيفات سواء من الناحية السياسية أو حتى الاقتصادية والاجتماعية لأنها أعدت للدول وليس للمناطق داخل الدول. ولكن على سبيل المثال تدخل الدولة ضمن الدول الأقل نموا إذا ما انطبقت عليها ثلاثة معايير أحدها ضعف مستوى إجمالي الدخل بأن لا يزيد متوسطه السنوي للفرد لثلاث سنوات متتالية على 905 دولارات أمريكية، وثانيها ضعف التنمية الإنسانية بناء على سلامة وكفاية أنظمة التغذية والصحة والتعليم العام ونسبة المتعلمين من البالغين، أما المعيار الثالث فيتمثل في ضعف الاقتصاد وقابليته للانهيار بناء على عدم الانتظام في الإنتاج الزراعي وفي الصادرات من السلع والخدمات، إضافة إلى عوامل بيئية وطبيعية أخرى. وتدخل ضمن هذا التصنيف حاليا 33 دولة أفريقية، و 10 دول آسيوية – ليس من ضمنها أية دولة خليجية – ودولة واحدة في الأمريكيتين، و 5 دول من دول الجزر الصغيرة في أوقيانوسيا. أما بالنسبة للمملكة ودول مجلس التعاون الأخرى التي تعتبر ضمن دول الفئة العليا أو المتوسطة في الدخل على مستوى العالم حسب أحد التصنيفات، وضمن العالم الثالث في تصنيف آخر هي الآن ضمن الدول «المتقدمة» حسب تصنيف «البنك الدولي». فطالما أن العالم أجمع ومنظماته الاقتصادية والمالية المتخصصة لا تصنفنا ضمن «الدول الأقل نموا» فكيف نسمح لأنفسنا بتصنيف مناطق عزيزة من بلادنا بأنها «أقل نموا» بكل ما يتبع مثل هذا التصنيف من تداعيات اجتماعية ونفسية ومناطقية. فمن أعطى الحق لفرد أو جماعة يعيشون في منطقة حضرية كبيرة أن يصنفوا مناطق أخرى بأنها «أقل نموا»؟ ومن هو المسؤول عن كونها أقل نموا في بلد يعتمد التخطيط المركزي منذ 1970م؟! أعتقد لو أن مسؤولا أمريكيا أو أي مسؤول أوروبي وصف إحدى الولايات أو المناطق في بلاده بأنها «أقل نموا» فسيحاسب حسابا عسيرا وسيسأل ببساطة ما الذي جعلها أقل نموا؟ وعلى أي معيار تطلق تسمية مثل هذه عليها؟ أهو معيار دخلي أو صحي أو اجتماعي أو ماذا؟ ولا أضيف جديدا إذا ما ذكرت القراء مرة أخرى بكلمات خادم الحرمين الشريفين لأهل جازان حين قال بالنص الحرفي «لقد تأخرت مسيرة التنمية في جازان في الماضي لظروف لم يكن لأحد يد فيها إلا أن دولتكم عقدت العزم على إنهاء هذا الوضع، باختزال المراحل، ومسابقة الزمن، وإعطاء جازان عناية خاصة». لقد كانت هذه الكلمات منتقاة بدقة وعناية فائقتين حتى لا تعطي أية دلالات خاطئة أو تفسر بأية تفسيرات مشوشة. وحتى الاقتصاديين السعوديين ومنهم بعض الكتاب والمشاركين في وسائل الإعلام المختلفة ممن بحت أصواتهم وجفت أقلامهم من كثرة تكرار الدعوة إلى «تنمية الأرياف والمناطق الحدودية والنائية» لم يتجرأ أي منهم على وصف أية منطقة من مناطق المملكة بأنها «أقل نموا» لأن في هذه التسمية إجحاف كبير بحق المناطق التي يتحدثون عنها وأخص منها تلك التي حددتها توصية مجلس الشورى وهي «حائل، جازان، نجران، الحدود الشمالية، تبوك، الباحة، والجوف» فهذه المناطق مزدهرة ولا يمكن وصفها بالأقل نموا وفق أي معيار من المعايير بما في ذلك المعايير الدولية التي عرضت بعضها في صدر المقالة. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن مدينة تبوك عاصمة منطقة تبوك هي من أسرع المدن السعودية نموا على الإطلاق بل هي أكثر تطورا واستقرارا في الظروف المعيشية والبيئية من أجزاء كبيرة في مدن الرياضوجدة والدمام ومعظم العواصم الخليجية. ولكن هذا لا يمنع من القول بأن أرياف منطقة تبوك وبعض محافظاتها البعيدة والحدودية مثل الوجه وتيماء وحالة عمار وحقل وأملج تحتاج إلى مزيد من الاستثمار والمشاريع التنموية. ولكن ماذا لو استغل المستثمرون عمومية التوصية – إن قدر لها أن تتحول إلى قرار – وركزوا استثماراتهم في مدينة تبوك ذاتها؟ فما الفائدة التي تجنيها المحافظات البعيدة عندها؟! وبالنظر بتمعن في المناطق التي أسمتها توصية الشورى «أقل نموا» نلاحظ أنها كلها باستثناء «الباحة» هي مناطق حدودية. ولربما أضيفت إليها الباحة لموقعها الجبلي شبه المنعزل بين منطقتين سياحيتين أكثر ازدهارا وذلك ما دعا لتقديم الحوافز لمزيد من الاستثمار لإنعاشها. ولذلك أدعو هنا إلى إعادة النظر في هذه المبادرة قبل إصدار أية قرارات تنفيذية بشأنها لأنها محورة عن الدعوات إلى «تنمية الأرياف والمناطق الحدودية والنائية» ولكن بأسلوب لا يدل سوى على الضعف الأكاديمي والوعي السياسي للقائمين على إعدادها. فالمبادرة بالتسمية التي ندعو إليها تشمل «أرياف المدن والمراكز الحضرية والمناطق الحدودية والنائية»، ولا تستثني أية بقعة قريبة كانت أو بعيدة تحتاج إلى التنمية من الجهود التنموية. فمعايير التصنيف تحت هذا المسمى واضحة وتجارب الدول فيها كثيرة ويمكن الاسترشاد بها. فمنطقة ريفية قرب مدينة الرياض أو جدة يمكن أن تستفيد من مثل هذه المبادرة، وقرى معزولة في جبال عسير أو وديان تهامة أو أعماق الخرخير أو وديان العلا وخيبر يمكن أن تستفيد من هذه المبادرة .. وهكذا. أما حزم التحفيز التنموي فتحتاج أولا وقبل كل شيء إلى تحديد وتعريف النشاطات الاقتصادية سواء كانت زراعية أو صناعية أو تجارية بحسب الإمكانات المتاحة للمنطقة أو الموقع المرشح للاستثمار. وبعد ذلك يتم تصميم حزم التحفيز التي يجب أن تتجاوز النمطية وأن تتنوع بتنوع المناطق والمواقع والإمكانات المتوفرة. كما أنه لا يجوز أن تختزل التنمية المناطقية بتقديم القروض من صندوقين حكوميين لمن يستطيع الحصول عليها. ويجب أن تتخطى هذه التنمية المعقدة التي تدخل فيها اعتبارات أمنية واقتصادية وإنسانية كثيرة مجرد الاكتفاء باستنزاف مزيد من القروض من صناديق الدعم الحكومية إلى الدعم اللوجستي والفني والبشري الذي لا بد أن تلزم به كافة مؤسسات الدولة التي تتواجد في منطقة الاستثمار.. وفي الختام.. آمل إعادة النظر من خلال المجلس الاقتصادي الأعلى في مجمل القضية وإخضاعها لدراسة منهجية تشترك فيها وزارة الداخلية – المرجعية الإدارية للمناطق ووزارة الاقتصاد والتخطيط، ووزارة الشؤون البلدية والقروية، ووزارة المالية، وأية جهة اختصاص أخرى ترى في نفسها الأهلية للمشاركة خاصة مراكز البحوث في الجامعات ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية. فنحن في بلد فيه من المؤسسات ما يكفي – ولله الحمد لرسم وصياغة مبادرات واستراتيجيات وخطط وسياسات تنموية فعالة ولسنا مضطرين لتقبل أية مشاريع أو توصيات يشوبها الغموض وتختلط فيها المفاهيم العلمية. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة