في هذا العالم العربي الغارق في مأساويته الحضارية ومآزقه السياسية ومشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والذي هو في حالة تيه.. يظل في أمس الحاجة إلى من ينير له الطريق ويشعل الضوء في دروب العتمة وسط هذا الأفق المغلق.. والذين يعملون على ذلك هم قلة وحالات استثنائية لايجود الزمن بمثلها ولايمكن أن تتحقق أو أن تخرج للوجود في ظل ثقافة ظلامية قامت بتسييس الدين وجعلته سلطة في حين الدين هو أكبر وأعظم من كل الممارسات الخاطئة. .. ولعل من أكبر العقول العربية ماضيا وحاضرا التي عملت على تأسيس خطاب عقلاني وفكري هو المفكر الجزائري محمد أركون الذي غادرنا إلى الدار الآخرة منذ عدة أيام تاركا أعمالا فكرية وفلسفية تشكل ثورة معرفية في حقل العمل الفكري والفلسفي في العالم العربي والإسلامي وتضيء وتضيف لغة جديدة في ميدان الحفر المعرفي ليست معهودة ولا مألوفة البتة في الثقافة العربية والإسلامية. وبرحيل هذا المفكر الاستثنائي.. المحارب بسلاح العلم وسلطة المعرفة تفقد الأمة العربية أحد العقول الكبيرة هذا الرجل الذي سماه المثقف هاشم صالح رفيقه وصديقه ومترجم كتبه «ابن رشد العرب في القرن العشرين» وهو كغيره من المفكرين العرب.. كانوا ضحايا الخارطة العربية والتفكير الاجتماعي والديني السائد.. بدءا من طه حسين وعلي عبد الرازق.. وحسين مروة ومهدي عامل.. وصادق جلال العظم وانتهاء بأدونيس ونصر حامد أبو زيد وهشام جعيط وحسن حنفي ومحمد عابد الجابري وآخرين دفعوا ثمن اختلاف توجهاتهم وفكرهم وطروحاتهم المختلفة.. نظرا لكونهم كانوا مختلفين.. وكانوا يغردون خارج السرب.. خارج هذا الفضاء العربي المغلق.. ومن هنا كانوا هم النخبة الطليعية المطاردة من الأرض العربية نتيجة لأن طرق تفكيرهم مختلفة وطريقة كتاباتهم وتناولاتهم مختلفة أيضا، ليست ضمن السائد من الثقافة السائدة والمستعملة في هذا الهواء العربي المستعمل. .. قيمة محمد أركون أنه ذهب إلى اللا مفكر فيه في الثقافة الإسلامية فأعاد قراءة الفكر الديني والتراثي على ضوء المناهج الحديثة وكسر ما سماه.. ب «الجهل المؤسس» في الثقافة العربية والإسلامية، وفيما كان استاذا في جامعة السوربون يعمل على إضاءة المظلم والمعتم في الثقافة الإسلامية والعربية مقدما ما هو ناصع في هذه الثقافة للقارئ الفرنسي، كان بالمقابل يعمل على إقامة مشروع فكري كبير وعظيم تمثل ذلك في أعماله الكبيرة التي نقلها إلى العربية هاشم صالح، منها «تاريخية الفكر الإسلامي و الإسلام الأخلاق والسياسة وقضايا في نقد العقل الديني» وغيرها من الأعمال الفكرية الجادة والجديدة.. في لغتها ومنهجيتها.. وفي أساليب الخوض فيما هو شائك وحساس في الثقافة الإسلامية والذي يتعلق بالنص الديني والتراثي في هذه الثقافة وإعادة تفكيك هذا النص وفق رؤية علمية لم تكن معهودة ولا مطروقة في آليات الكتابة العربية وربما كان هو والجابري، ونصر أبو زيد وأدونيس وحسين حنفي أجرأ من قدم فهما جديدا للفكر الإسلامي.. وذلك عبر سبر غور النص التراثي والديني والدخول في عمق الفكر الذي أعاق تقدم الأمة وشل حركتها، وتلك القراءة التي اعتمدت على منهج التأويل في قراءة النص.. هي قراءة تحاول أن تساهم في إعلاء العقل العربي، وهو ما يؤكد أهمية المشروع الذي اشتغل عليه أركون وغيره من المفكرين العرب الذين تعرضوا لأبشع التهم.. وأسوأ ما في اللغة من مفردات النبذ والإلغاء والإقصاء. .. إن الأمة العربية ليست بحاجة إلى مغنين جدد ومهرجين سياسيين جدد أيضا ولا هي بحاجة إلى تكريس الجهل وتأسيسه ولكنها بحاجة من يشعل ضوء الفكر والمعرفة ويحترم العقل.. ذلك أن العقل وحده هو القادر على إقامة مجتمع عربي قائم على الحرية والحداثة والدولة العصرية، وفهم تراث الأمة من أجل فهم حاضر هذه الأمة، ولقد كان محمد أركون واحدا من هؤلاء الكبار الذي كان يحلم ويتمنى وجود عقلانية جديدة تسهم في بناء المجتمع العربي .. بالتفكير .. لا بالتكفير .. بإحياء علوم الدين.. وإحياء علوم الدنيا أيضا. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 203 مسافة ثم الرسالة