هل أنهكت الدول الكبرى، وهل ستقلص الأزمة المالية العالمية التي توشك على الانتهاء اليوم من قدرة هذه الدول على استعراض قوتها على المستوى العالمي، والاهتمام بشكل أكبر بالأحوال الاقتصادية داخل بلادها، وهل هناك نهاية لحقبة ما سمي «بالقطب الواحد» لندخل في حقبة انتقالية جديدة تلعب فيها القوى الوسطى دورا أكبر على المستوى الإقليمي والعالمي ؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تثير القارئ حتما، فقد تعودنا على وجود دولة قوية مهيمنة على السياسة الدولية وعلى الاقتصاد العالمي، يمكنها التدخل في النزاعات الإقليمية وبسط نفوذها في أرجاء المعمورة بحكم امتلاكها لذراع عسكرية طويلة تستطيع بموجبها أن تفرض وجودها وقوتها في أرجاء العالم وأركانه الأربعة. غير أن هذه الصورة النمطية والتي كانت سائدة لأكثر من ستين عاما مضت، بدأت في التراجع. فالولاياتالمتحدة قد أنهكت نفسها في حرب طويلة في العراق، وهي تريد الرحيل من هذا البلد وسحب معظم قواتها منه قبل نهاية شهر أغسطس القادم. كما أن حربها في أفغانستان قد تعدت في طولها الحرب الفيتنامية، وباتت اليوم أطول حرب في تاريخ الولاياتالمتحدة. ولا يظهر للمرء أن هناك نهاية سعيدة بشأنها، لأن هذه الحرب قد تستمر بشكل أو بآخر لأربعة أعوام قادمة. ومن يقرأ تاريخ القوى الكبرى، يجد أن هناك ظاهرتين أساسيتين في هذا التاريخ، أولاها أن تلك القوى كانت تمتلك المال والقوة العسكرية كمتطلبين أساسيين في بروزها على المسرح العالمي. وثانيتها أن كثرة الحروب التي تخوضها هذه الإمبراطوريات وتنهكها نفسيا، بسبب عدد الضحايا من الجنود، وكذلك تنهكها ماديا بحيث تبدأ هذه الإمبراطوريات بأخذ قسط من الراحة بين جولات الحروب التي تقوم بها، أو قد تتراجع قوتها بشكل كبير، كما حدث مع الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية بعد الحرب العالمية الثانية، بفعل ظهور قوى وإمبراطوريات جديدة تضاهي وتقارع القوى والإمبراطوريات القديمة. نحن اليوم لسنا أمام ظهور قوى وإمبراطوريات عالمية جديدة مع أن العديدين يشيرون إلى أن الصين تسير في طريق تكوين إمبراطورية شرقية قوية قادمة. غير أن الصينيين ليسوا في عجلة من أمرهم وهم يريدون بناء أنفسهم كقوة اقتصادية ضاربة قبل أن يتحولوا إلى قوة عسكرية بأذرع بحرية تحارب في أماكن بعيدة عن أراضيها. بالإضافة إلى إنهاك الدول الكبرى، فإن الأزمة الاقتصادية العالمية قد سارعت في تحويل الولاياتالمتحدة من دولة ذات اقتصاد قادر على جذب الاستثمارات العالمية، إلى دولة مصدرة لهذه الاستثمارات. وبرزت بالتوازي مع ذلك بؤر من قوى إقليمية جديدة ممتدة من البرازيل والأرجنتين في أمريكا الجنوبية إلى الاتحاد الأوروبي بسياسات دوله المتباينة، وإلى تركيا وإيران ودول الخليج العربية في المشرق العربي، والهند والصين واليابان في شرق آسيا. نحن إذا أمام مجموعة من الدول الإقليمية التي لا تستطيع أن تصل بقوتها السياسية والاقتصادية إلى مستوى عالمي يضارع الولاياتالمتحدة. ولكنها بقدراتها الاقتصادية المتنامية وسياساتها الإقليمية المتحفزة قادرة على حفر مسار إقليمي خاص بها، يخدم أهدافها في الظهور بشكل يؤثر بشكل إجمالي مجتمع على السياسة الدولية. ولنضرب مثلين رئيسيين، إحداهما بالإدارة الجديدة للسيد (ديفيد كاميرون) رئيس الوزراء البريطاني الجديد الذي أشار في زيارته لواشنطن قبل أسبوع إلى أن بريطانيا لازالت ترى نفسها حليفا مخلصا وتابعا للولايات المتحدة. وفي نفس الوقت تبنت حكومته سياسة اقتصادية مغايرة للسياسة الأمريكية تقوم على تقليص الإنفاق الحكومي، وخدمة الصناعة وقطاع الخدمات في الخارج، عبر التوسع في التصدير ومنافسة حلفائها في الاتحاد الأوروبي وخارجه. أما الحالة الثانية، فهي الحالة التركية، فقد استطاعت حكومة السيد أردوغان إبرام عدة اتفاقيات اقتصادية وسياسية مع دول الجوار خاصة في سوريا ولبنان ومع إيران، يتم بموجها إعلان منطقة تجارية حرة بين هذه البلدان وبين الجمهورية التركية. وفي الوقت الحاضر تتفاوض تركيا مع بلدان الخليج العربية لإنشاء منطقة تجارة حرة معها.. كل هذا النجاح الذي تحققه تركيا على المستوى السياسي والاقتصادي الإقليمي جعل الدول الأوروبية تخشى من بروز دور تاريخي جديد لتركيا في هذه المنطقة من العالم، ما دفع وزير الخارجية الألماني ورئيس الوزراء البريطاني لزيارتها في محاولة للاطلاع على تفاصيل الدور التركي الجديد والسياسة الجديدة لتركيا في المنطقة، والتي قد تهدد بسحب أسواق هذه المنطقة من مورديها الأوروبيين التقليديين. الجزرة الأوروبية لتركيا هي إعادة إحياء التفاوض معها حول عضويتها المستقبلية في الاتحاد. ولكن الصورة الأهم والتي قد تغيب عن أعين الكثيرين هي أن تركيا لم تعد ترى نفسها لاعبا صغيرا في الملعب الأوروبي، بل لاعب إقليمي مهم في الملعب العربي والمشرقي. وإذا ما تكررت هذه الصورة في أقاليم أخرى من العالم وهو ما يحدث بالنسبة للبرازيل والصين وغيرهما من الدول الإقليمية، فإننا أمام مشهد جديد من بروز دور مهم للدول الإقليمية على المستوى الدولي. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 119 مسافة ثم الرسالة