يبدو أن سن السبعين تمثل محطة جوهرية في حياة الأدباء، حيث يتوقف فيها الأديب ليراجع نفسه ويحاسبها، ماذا حقق في هذه العقود المنصرمة من العمر، وماذا أنجز فيها. فمنذ أسابيع مضت، طالعنا قصيدة لشاعرنا الفذ غازي القصيبي، صور فيها ما آل إليه الشاعر بعد أن بلغ السبعين من عمره، وكتبت عن هذه القصيدة مقالا، قارنت فيه هذه القصيدة وأخرى للشاعر ذاته، كان قد كتبها في سن الخامسة والستين، واتضح لنا كيف سيطرت روح اليأس على شاعرنا في سن السبعين وعكست القصيدة من خلال الفائها حالة من «اليأس» الذي يندهش له من يعرف القصيبي وإثرائه للحياة السياسية والأدبية في بلادنا، وهو ما يؤكد لنا سيطرة الرومانسية على شعره حتى الآن. ويبدو أن السبعين قد حركت قريحة شاعر فذ من شعراء هذا الوطن، جمع في شخصه أصالة في النسب، وأصالة في الأدب، فأنتجت لنا قريحته التي ما زالت نضرة كروحه وشخصيته، قصيدة شعبية رائعة، وسمت لنا ملامح صاحبها، إنه صاحب السمو الملكي الأمير الشاعر خالد الفيصل. ويقطع الشاعر الطريق على «السبعين» ويعلن بداية أنه قد تغلب عليها، فيقول: «حاولت سبعيني تهز الثبات وانتصر صبري على حيلاتها» الخصم العنيد فالخصم.. السبعون عاما، لم يكن خصما سهلا، بل حاول بجلد أن ينال من شاعرنا، لكنه بالصبر والمثابرة استطاع الانتصار على تلك المحاولات الشرسة من قبل الخصم العنيد. لم تفلح سنوات السبعين إذن في أن تنال من الفيصل، بل لم تفلح في النيل من ثباته رغم ما فيها من نوائب ومعارك وهجمات ونحوها. فللفيصل فلسفته إزاء سنوات العمر، فالعمر عنده لا يحسب بالأيام والسنوات، وإنما بالإنجازات التي يحققها المرء في حياته، فالحياة - على نحو ما قرأت في صباي - ليست بتردد الأنفاس في الصدور، وإنما الحياة بما يقدمه المرء للآخرين من عمل خير يستفاد منه. وكم من البشر قد تجاوزوا المائة عام، وإنجازاتهم للبشرية لا تعدل ما حققه آخرون في عام واحد أو بضعة أعوام. وحكمة الفيصل التي اعتدنا معايشة آثارها في سلوكياته ونهجه مع أبناء وطنه، تظهر جلية في قوله: «الحياة لمن صنع تاريخها والهوامش في الحياة أمواتها بعضهم يعيش من بعد الوفاة وبعضهم حياتهم وفاتها». حقا، فالأموات ليسوا من في القبور وحسب، فكم من أحياء بيننا لا أثر لهم في المجتمع وبين الناس، يعيشون على الهامش، لا فرق بينهم وبين من تحت الثرى، وكم من أموات ما زالوا أحياء بيننا بذكراهم العطرة وأعمالهم الخالدة. إرادة قوية إن هذه السبعين لم تكن سهلة بالنسبة لشاعرنا، بل بكل ما حوته من أحداث، وما جابهته به من تحديات، قد استنزفت كثيرا من حياته، من وقته وصحته وطاقته وجهده، لكنه في الوقت نفسه خلفت فيه إرادة قوية شامخة: «فجرت فيني سؤال المستحيل واستنزفتني تحدياتها». ويرسم لنا الفيصل بعض ملامح عدته التي تزود بها، وبعض أنواع أسلحته التي تسلح بها لمجابهة السبعين وأحداثها فيقول: «استمد العزم من سيرة هلي رافعين الرأس في شداتها أصلح الأعمال خدمة دينها وخدمة الأوطان هي لذاتها». لقد تزود الشاعر بعزيمة قوية، وإرادة صلبة، ورثها عن أهله وعشيرته الذين عاشوا كراما رافعي الرأس، لم تنحن جباههم أمام شداد السنين وصعوباتها، عاشوا وهم يضعون نصب أعينهم خدمة هذا الدين الحنيف، وتمتعوا بخدمة وطنهم، ووجدوا في ذلك كله ما تقر به أعينهم وتتلذذ به أنفسهم. والحديث عن جماليات هذه القصيدة له مقام آخر، وقد أشار إلى بعض هذه الجماليات الناقد الكبير الدكتور عبد الله المعطاني في إحدى مقالاته، لكنني هنا معني بالدرجة الأولى بالبعد الفلسفي الكامن في أبيات القصيدة، ورؤية الشاعر ونظرته للحياة، التي أراها من خلال قصيدة الفيصل تعكس إيجابية واضحة من قبل الشاعر في تفاعله مع الزمن، ولا يمكن لنا أن نشتم من أبياتها، ولا من ألفائها، تلك الحالة السوداوية التشاؤمية التي تنتاب البعض عند بلوغ تلك المرحلة من العمر، وهي سمة من سمات المذهب الرومانسي. في اعتقادي أن أبيات القصيدة تقدم لنا بعض سمات «النفس المطمئنة» التي عاشت أيامها لتحقيق أهداف بعينها، فلم تزغ، ولم تضل. إنها حكمة السبعين عند الفيصل، ولعل شاعرنا القصيبي يراجع سبعينه، وسيجد حتما أنه قد قدم لدينه ووطنه، ولنا كأفراد، ما يمكن أن يخفف من تلك الحالة التي سيطرت عليه في قصيدته.