منذ خمس سنوات، وبالتحديد في صحيفة الجزيرة الصادرة في 22/5/2005م، نشر شاعرنا الفذ غازي القصيبي قصيدته «حديقة الغروب»، التي بدأها بقوله: خمس وستون.. في أجفان إعصار أما سئمت ارتحالا أيها الساري؟ أما مللت من الأسفار.. ما هدأت إلا وألقتك في وعثاء أسفار؟ وأذكر أنني علقت عليها في إحدى مقالاتي، وقد عدت إلى حديقة القصيبي فوجدتها تمثل مرحلة من مراحل حياته، حيث الارتحال والأسفار والأعداء والصحب ورفاق العمر، وأنه قد استكفى من هذا كله. ولاحظت في هذه القصيدة تحوله من مناجاته لنفسه، إلى مناجاته لرفيقة دربه وحياته، كما وجدت عودة القصيبي من خلال هذه القصيدة إلى الجو الرومانسي مرة أخرى، بعد أن هجره إلى عالم الواقعية. كانت حديقة القصيبي منذ خمس سنوات بمثابة عودة إلى عالم هجره، وما لبث أن حن إليه، ولم تكن العودة من خلال معنى القصيدة وحسب، بل من خلال معناها ومبناها، ليثبت بذلك رسوخ الأسس الفنية للقصيدة العربية، وأن ما عداه من أشكال شعرية معاصرة، مصيره إلى الذبول والزوال. بعد خمس سنوات، يطل علينا أبو سهيل بقصيدة جديدة، وقد بلغ السبعين من عمره.. أطال الله بقاءه ومتعه بالصحة والعافية، بدأها بقوله: ماذا تريد من السبعين يا رجل لا أنت أنت ولا أيامك الأول جاءتك حاسرة الأنياب كالحة كأنما هي وجه سله الأجل وتسيطر روح اليأس على شاعرنا في هذه القصيدة، وهو يعاتب ذاته بعد السبعين، ويلومها لتغير الأحوال، واختلاف الأيام، مع أن ذلك كله من سني الحياة التي علينا أن نتقبلها، لأنها من القدر الذي لا يد لنا فيه. ثم يتحول شاعرنا في خطابه إلى المرأة التي تمثل ركنا رئيسا في شعره، فيما يسمى عند البلاغيين ب«الالتفاف».. فيقول لها: أواه سيدتي: السبعون معذرة إذا التقينا ولم يعصف بي الجذل قد كنت أحسب أن الدرب منقطع وإنني قبل لقيانا سأرتحل أواه سيدتي: السبعون معذرة بأي شيء من الأشياء نحتفل؟ وبداية هذه الأبيات، وتكرار لفظ «أواه» الذي يفيد الألم والحسرة، يجسد ما وصلت إليه حالة شاعرنا في السبعين، كما يعكس تكرار «السبعون» ما تمثله هذه المرحلة العمرية من قلق في حياته، وهو يقدم الاعتذار إلى المرأة التي خاطبها من قبل، مع أن الطبيعي، أنها هي كذلك قد تقدمت بها السن، فليس ثمة ما يبرر الاعتذار، لأن الاعتذار يكون لما يرتكب الإنسان من عمل طوعا، أما تقدم السن فهو خارج عن إرادة البشر.. ثم يختم الأبيات السابقة باستفهام يفيد الحسرة والندم: بأي شيء من الأشياء نحتفل؟! يعدد بعد هذا الإجمال، تفصيل ما ضاع من العمر وفي العمر، وهو ما من شأنه أن يخرج عن دائرة الاحتفال والاهتمام، فالاحتفال عادة ما يكون بالأشياء الجميلة، ويقول في قصيدته: أبالشباب الذي شابت حدائقه؟ أم بالأماني التي باليأس تشتعل؟ أم بالحياة التي ولت نضارتها؟ أم بالعزيمة أصمت قلبها العلل؟ أم بالرفاق الأحباء الألى ذهبوا وخلفوني لعيش أنسه ملل؟ فحديقة الغروب منذ خمس سنوات، شابت الآن، ولم تعد للأماني صورتها المغرية بل أصبحت «مشتعلة باليأس»، والحياة قد ولت نضارتها، وأوهنت العلل والأمراض العزائم ونالت منها، كما ذهب الأصحاب، كل لحاله أو لمصيره، وبقي وحيدا برفقة الملل. إن دوام الحال يا شاعرنا العزيز من المحال، وإذا كنت وقد حققت ما حققت من إنجازات على شتى المستويات، العملية والإدارية والأدبية والاجتماعية قد وصلت إلى تلك الحالة التي صورتها الأبيات السابقة بقتامة وتشاؤم، فماذا يمكن أن يقول الآخرون؟ ويفيق الشاعر بعد هذا «الاعتراض» الشكلي على سنن الكون، بحكم ما رسخ في قلبه ووجدانه من إيمان عميق، ويتدارك تمرد شيطان الشعر، فيتغلب إيمانه، ويقول: تبارك الله قد شاءت إرادته لي البقاء فهذا العبد ممتثل والله يعلم ما يلقى وفي يده أودعت نفسي وفيه وحده الأمل إنه تسليم من شاعرنا بقضاء الله وقدره، وامتثال تام لإرادته، وخضوع لمشيئته، وإقرار بأنه الملجأ وإليه المستقر. هذه القصيدة «القصيبية»، مع أنها تمثل حالة نفسية لمرحلة عمرية يمر بها شاعرنا إلا أنها فنيا تعكس إصرار الشاعر وتمسكه بالقصيدة العربية المتميزة بوزنها وعروضها وقافيتها، وكأنه قد طلق تلك الموجة التي سادت الشعر العربي في العصر الحديث، وكادت تطيح بكثير من أدبائنا وشعرائنا الأفذاذ، كما أنها تعكس لنا أيضا تمكن الرومانسية من غازي. شاعرنا العزيز.. إن ما ختمت به أبياتك السابقة، يبعث على الطمأنينة، ويمنح النفس حالة من الأمن والأمان والاستقرار، ويجعلني أتفاءل بخروج قصيدة جديدة من إبداعاتك، تجعلنا نطمئن عليك، وعلى أنفسنا، قبل أن نصل إلى السبعين، إذا شاءت إرادة الله. أتمنى له عمرا مديدا، وحياة سعيدة، وعطاء متجددا.. متفائلا، وفي أمان الله. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 177 مسافة ثم الرسالة