عندما كنت طالبا في إنجلترا قبل فترة طويلة، كنت أركب القطار إلى المدينة التي أسكن فيها في شمال لندن مرتين في الأسبوع على الأقل.. وكان القطار يقف في مجموعة محطات هادئة.. وأتذكر بعضها إلى اليوم.. وبالذات محطة «بلتشلي بارك» Bletchley Park الهادئة لدرجة الملل.. واكتشفت بعدها مقدار جهلي بالتاريخ لأن تلك البلدة الصغيرة «المملة» كانت من أهم المواقع التي غيرت تاريخ الحرب العالمية الثانية، وتاريخ التقنية أيضا، فقد تم تجميع مجموعة من أعظم عقول إنجلترا في مجال الرياضيات وتجمعهم في منزل كبير في تلك البلدة في الفترة 1939 إلى نهاية الحرب في 1945 بهدف فك الشيفرة النازية.. ونجحوا في التصنت على الإشارات الألمانية، وفك الطلاسم التي كانت ترسل بالآلاف يوميا عبر الجو والبر والبحر.. ولكنهم وضعوا أيضا أساسيات لبذور تقنيات الحاسوب الذي نستعمله اليوم.. تم اكتشافها وتطويرها في ذلك المقر التاريخي المهم الذي أصبح مركز الحرب العقلاني لدى قيادة الحلفاء وفي مقدمتهم رئيس الوزراء البريطاني «ونستون تشرتشل».. وكل ذلك على مقربة من محطة القطار.. وللأسف إن اكتشافاتي لجهلي في العديد من الأمور ينمو مع الأيام بدون حدود في المجالات المختلفة.. وعلى سبيل المثال فكنت أعتبر أن سرعة الضوء هي الحد الأعلى للسرعة حيث تبلغ ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة.. واكتشفت جهلي بالموضوع لأن تلك السرعة تتحقق في الفراغ التام فقط، وممكن أن تكون أبطأ من ذلك بكثير حسب المجال الذي يسرى فيه الضوء، فعندما تنظر إلى جمال الألماس مثلا ترى الضوء ساريا بسرعة تبلغ أربعين في المائة فقط من سرعته في الفراغ، وعندما يمر خلال مادة الصوديوم المبرد على درجة حرارة 272 تحت الصفر مثلا تصل سرعته إلى أقل من أربعين كيلومترا في الساعة.. أقل من متوسط سرعة «الأنيسة» التي تراها تحوم شوارع جدةومكة يوميا.. يعني ممكن أن ندعي أن الأنيسة «القرمبع» التي تجوب طريق المدينة يوميا يمكنها أن تسير بأسرع من سرعة الضوء.. طبعا عندما يخطر هذا في بالي أزداد خجلا لمقدار جهلي الذي ينمو يوميا.. وهناك المزيد.. فتخصصي في تخطيط المدن يقودني إلى البحث عن خصائص المنشآت الإنسانية.. وكنت أحسب أن أكبرها في التاريخ هو جدار الصين العظيم ولكن المفاجأة الكبرى كانت أن أكبر المنشآت هي «فريش كيلز» Fresh Kills ومعناها باللغة الهولندية «النهر الصغير النقي» لأن جذور مدينة نيويورك هي هولندية، وفى الواقع فاسمها الأساس كان «نيو أمستردام» أي أمستردامالجديدة.. المهم أن المنشأة المعنية تقع في جزيرة «ستاتن» على أطراف مدينة نيويورك.. وهي عبارة عن مردم نفايات.. كان يستقبل حوالى 13 مليون كيلوجرام من النفايات يوميا.. ما يعادل وزن 33 طائرة بوينج 747 «جامبو» بكامل حمولتها.. كل يوم.. إلى أن تم إغلاقه عام 2001م، وكانت مساحته قد وصلت إلى حوالى 12 مليون كيلومترا مربع وارتفاعه كان يفوق طول طائرة بوينج 747 «جامبو» وكلها قمائم في قمائم.. شيء يولد الاشمئزاز ولكن الاشمئزاز الأكبر هو بسبب جهلي بهذه المعلومات. أمنية كلمة «ول» جميلة في بساطة شكلها ونطقها، وفي مضمونها الغني في التعبير عن الدهشة والاستغراب من اكتشافات غير متوقعة، وكل ما ذكر أعلاه والعديد من المعلومات الأخرى التي نكتشفها يوميا تنتمي إلى هذا التصنيف، ولكن هناك ما هو أهم من كل هذا ففكر في مقدار جهلنا بتاريخ مكةالمكرمة، والمدينةالمنورة، والقدس الشريف، وفكر في مقدار جهلنا عن ملاحم التضحيات والمواقف البطولية الرائعة عبر التاريخ في الدفاع عن مبادئنا وأراضينا.. أتمنى أن نعيد النظر في آليات مكافحة جهلنا بالأمور.. لنعيد النظر في الأمور التي نعلم أننا نجهلها، وتلك التي نجهل أننا نجهلها، والتي نتجاهل الجهل بها. والله من وراء القصد. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 122 مسافة ثم الرسالة