من بين الكتب التي أثارت انتباهي في معرض الرياض لهذه السنة، كتاب «العدالة كإنصاف» للفيلسوف الأمريكي جون راولز. هذا الكتاب الذي ترجمه د. حيدر حاج إسماعيل هو الصيغة الأخيرة من هذا العمل المهم والمثير للجدل، والذي واصل مؤلفه تعديله على ضوء النقاشات والنقد طيلة العقود الثلاثة التي تلت صدور طبعته الأولى في 1971. يقدم راولز في هذا الكتاب نظرية جديدة في فلسفة الدولة والتنظيم الاجتماعي/ السياسي، تبتعد شيئا ما عن الرؤية الليبرالية الكلاسيكية رغم أنها تنطلق من نفس المنطلقات، لا سيما الحرية الفردية في حدها الأعلى ومبدأ العقد الاجتماعي كأساس للنظام السياسي / الاجتماعي. قدم راولز حلا لإشكالية المغالاة في الفردانية، والتي تعتبر أحد العيوب الرئيسية في الليبرالية، لا سيما بسبب تركيزها على الجانب الغرائزي في الفرد، وتمحور فكرة السعادة والنجاح وبالتالي العوامل المؤثرة على قرار الفرد حول التملك والاستحواذ. انطلق راولز من رؤية متفائلة للطبيعة الإنسانية. المثال الذي يشكل خلفية لرؤيته هو مثال الإنسان الراشد الذي يتمتع بقوى ذهنية ونفسية تسمح له بانتخاب الخيار الأقرب للعدالة فيما لو عاش تحت نظام تعاون اجتماعي يقوم على الإنصاف ويضمن لاعضائه الحرية والمساواة. أهلية الإنسان للاختيار الصحيح قائمة على تمتعه بعنصرين معنويين يحملهما معه منذ الولادة: أولهما هو إحساسه بقيمة العدالة، أي قابليته لإدراكها وتمييزها وفهمها وتطبيقها والعمل بموجبها ولأجلها.. والثانية هي إحساسه بمنفعته الخاصة، أي قدرته على استيعاب تطبيقاتها وتشكيلها ومراجعتها وتنظيم حياته على نحو عقلاني يمكنه من نيلها. بفضل هذين العنصرين يستطيع الفرد أن يفهم ذاته كما يفهم الآخرين باعتباره وإياهم أحرارا يتحملون مسؤولية أفعالهم. وبهذا فهما يمثلان الأرضية التي يقوم عليها استقلال الفرد وأهليته للتعاقد مع الغير والمشاركة في تشكيل النظام الاجتماعي الذي يعيش في إطاره. احتذى منهج راولز عشرات من الباحثين، وتشكل على ضوء أفكاره تيار في الفلسفة السياسية يتوسع بالتدريج، ويقدم بديلا جديا عن التصور الاشتراكي للعدالة الاجتماعية الذي يسمح بتأجيل أو تحجيم حرية الفرد من أجل منافع أخرى مادية أو غير مادية. بينما قرر راولز أن تمتع الجميع بشكل فعلي بالقدرة على ممارسة حقوقهم وحرياتهم المقررة في القانون هو جزء من مفهوم العدالة ومعيارا لتوفر العدالة في نظام اجتماعي معين. والحق أن توظيف مصطلح «عادل» أو «ظالم» في وصف مجموع النظام الاجتماعي وبنيته القانونية والاقتصادية والمؤسسية هو واحد من أبرز تجليات الفهم الجديد، خلافا للمفهوم السابق الذي كان يطلق الوصف على أفعال الأفراد أو الدولة فقط. رأى راولز أن جميع عناصر وأجزاء النظام يجب أن تقيم وفقا لمعيار مشترك كي نستطيع وصفها كمجموع بالعدالة أو الظلم. نظرا للتأثير الديناميكي لكل مسار من مسارات النظام الاجتماعي على حياة أعضائه، فإن تقرير ما هي حقوق المواطنين وواجباتهم في جانب معين، الاقتصاد مثلا، يجب أن يسبقه تعريف لانعكاس النظام الاقتصادي وتطبيقاته على حياة الأفراد الذين يعملون في إطاره أو تتأثر حياتهم بمفاعيله، ولا سيما في تمكينهم أو إعاقتهم من ممارسة حقوقهم الأولية وحرياتهم. من بين التطبيقات العديدة لمفهوم الحرية، صنف راولز عددا منها كحريات أساسية، وتشمل الحقوق الخاصة بالضمير مثل حرية الديانة والتفكير والتعبير والتنظيم، كما تشمل الحقوق الضرورية لصيانة الكرامة الشخصية مثل حرية الحركة والعمل واختيار المهنة والملكية الشخصية، إضافة إلى شريحة من الحقوق المرتبطة بالمشاركة في الشان العام. هذه الحريات أساسية لأنها أكثر أهمية وأعلى قيمة من غيرها من المنافع الاجتماعية أو الحريات الأخرى، وهي عنده تشكل معيارا لحدود سلطة المجتمع.. طبقا لراولز فإن توفر منظومة الحريات الأساسية ضروري لتبلور هوية الإنسان المستقل، الكفء، القابل لتحمل المسؤولية عن عمله، والمشارك في الحياة العامة. ومن هذا المنطلق فإن نظرية العدالة التي اقترحها راولز تعطي للحريات الأساسية أولوية على كافة المنافع الاجتماعية الأخرى. فلا تصح التضحية بها من أجل سعادة المجتمع أو زيادة الثروة الوطنية أو مساعدة الفرد على بلوغ الكمال الذاتي، أو غير ذلك من المنافع. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 109 مسافة ثم الرسالة