توقفنا في جولتنا الأسبوع الماضي في منطقة القاهرة القديمة عند ساحة مسجد الحسين الشهير المواجه لجامع الأزهر العريق. بعد أن صلينا المغرب في مسجد الحسين، دعاني صديقي الأستاذ الدكتور ومعنا الشخص المرافق لي لتناول العشاء في حديقة الأزهر الرائعة، التي أصبحت من أشهر معالم القاهرة، والمطلة على قلعة صلاح الدين الأيوبي من جهة، وعلى مسجد السلطان حسن الشهير من جهة ثانية، وعلى منظر بانورامي رائع للقاهرة القديمة من جهة ثالثة. هذه الحديقة الشاسعة، هي درس جيد يجب التوقف عنده والتعلم منه في عدد من الأمور، ولها قصة أو قصص. فأذكر أنني كنت في منتصف الثمانينيات الميلادية أشارك في ندوة كبيرة عن العمارة والمدينة الإسلامية في القاهرة، برعاية برنامج الآغا خان للعمارة الإسلامية، وأنا أعرفه شخصيا. أثناء ترؤسي لجلسة صباحية بحثت عن الأمير كريم آغا خان فلم أره، وعندما قابلته بعد فترة الغذاء سألته عن سر اختفائه عن جلسة الصباح فأجابني أنه كان يبحث مع بعض رجال محافظة القاهرة إنشاء حديقة عامة على نفقته الخاصة، تبرعا للمواطنين المصريين. وذكر أنه خصص مبلغا مبدئيا بمقدار خمسة ملايين دولار لإنشاء تلك الحديقة، على أن يقوم بتصميمها وتخطيطها مكتب مصري معروف، أعرف صاحبه شخصيا. ثم ذكر لي الآغا خان أن بعض مسؤولي المحافظة عرضوا عليه أن يترك لهم أمر هذه التفاصيل وكذلك طرق التصرف في ميزانية المشروع. فسألته بإشفاق: هل وافقت؟ فأجاب: كلا، بل أصررت أن اختار شخصيا المكتب المصمم، وأن أسدد له أتعابه مباشرة عن طريق مؤسستي التي ستقوم أيضا بالصرف المباشر على تكاليف الإنشاء والتطوير. ثم سألته: ومن الذي سوف يتولى تكاليف الصيانة والتشغيل؟ فأجاب بأن مؤسسته سوف تضع آلية خاصة لتوفير إيرادات تصرف فقط على تشغيل وصيانة الحديقة، فقلت له هذا خير ما فعلت. وهذا ما كان، فنشأت حديقة الأزهر الساحرة، التي دخلت التاريخ، إذ أصبحت درسا في مبادئ تخطيط المدن وتصميم الحدائق العامة الجميلة لخدمة عموم المواطنين. والمثير في الأمر أن مكان هذه الحديقة الشاسعة كان حتى عهد قريب مرمى للقمامة ومرتعا للهاربين من القانون ومروجي المخدرات. وذكر لي بعض أساتذة الجامعة الذين أشرفوا على تنفيذ الحديقة، أن أكوام القمامة كانت تصل إلى أكثر من عشرين مترا، إلى درجة أنها كانت تخفي تحتها بعض المنشآت الأثرية مثل السور الأيوبي الذي أنشئ قديما لحماية ذلك الجزء من المدينة، وبعض البوابات الجميلة، وغير ذلك من آثار اكتشفوها بعد إزالة المخلفات وأكوام القمامة. ثم جاء كريم آغا خان، زعيم الطائفة الإسماعيلية، وقرر التبرع بتحويل ذلك الموقع إلى حديقة عامة، إذ إنه ينتمي إلى تاريخ العائلة الفاطمية التي حكمت مصر وبعض أجزاء شمال أفريقيا في الفترة 909-1171م، التي تنتمي إليها عائلته. هذه الحديقة أنشئت أساسا لخدمة الطبقة المتوسطة والفقيرة من السكان، لذلك حدد رسم الدخول بخمسة جنيهات فقط للكبار، ومجانا للأطفال. أما رسم دخول السيارة إلى مواقف الحديقة الداخلية فهي خمسة جنيهات فقط. وتستخدم جميع هذه الإيرادات في إدارة وتشغيل وصيانة الحديقة. تعمدت أن أزور الحديقة في أوقات مختلفة، أثناء النهار وأثناء المساء، لمعرفة مدى وأسباب نجاحها المنقطع النظير. المعروف لدى المصممين الحضريين ومخططي المدن أن البيئة البشرية تتأثر بالإنسان المقيم فيها، كما تؤثر عليه وعلى تصرفاته بصورة مباشرة. وهذه الحقيقة لاحظتها بوضوح في تلك الحديقة الخلابة. فبالرغم من أن جميع رواد الحديقة تقريبا هم من عائلات الطبقة المتوسطة أو الفقيرة (إلى جانب عدد من السياح الغربيين)، إلا ان الفرحة والابتسامة لا تفارق وجوههم، ويستمتعون بأوقاتهم بشكل حضاري جميل. لاحظت أيضا أن الحديقة دائما نظيفة، رغم الجمهور الكثيف الذي يستخدم مرافقها ويستمتع بها. الجميع يحترم قواعد النظافة والآداب العامة، فلا علب فارغة في الطرقات، ولا أوراق وفضلات ملقية على النجيلة الخضراء، ولا أحد يدخن فالتدخين ممنوع، ولا ألفاظ نابية أو مشاجرات أو ما يثير الأعصاب ويخدش الحياء. بالفعل، بيئة هذه الحديقة لها مفعول السحر على نفسية روادها وزائريها، وقد أصبحت من المعالم السياحية المرغوبة في المدينة العتيقة. هنا يستمتع زائرها بجمال التصميم وروعة التنسيق، ويشاهد مصر القديمة من فوق مرتفع كما لم يشاهدها من قبل، ويتناول طعامه أو شرابه في مطاعمها وجلساتها متأملا في سحر التراث الإسلامي القديم ومحاطا بعبق التاريخ. كم أتمنى أن تهيئ وزارة الشؤون البلدية والقروية رحلة دراسية لجميع أمناء ورؤساء بلديات المدن والقرى في المملكة لزيارة حديقة الأزهر في القاهرة القديمة، والتعرف على مراحل تطويرها، ودراسة إدارة خدماتها، وأسباب نجاح بيئتها الباهر، لنقل التجربة إلى مدننا في المملكة. كم أتمنى أن يكون في كل مدينة مثل تلك الحديقة الساحرة الخلابة المريحة للعين وللنفس وللقلب، بدلا من حدائقنا الهزيلة المثيرة للشفقة، التي لا علاقة لها بالحدائق إلا اسمها، فلا موقع ولا شكل جمالي ولا خدمات ولا نظافة، ولا حس ولا روح، وهي دائما محشورة في مواقع خطرة عند تقاطعات مرورية مزعجة، أو على حدود طرقات سريعة أو في الميادين، وجميعها أماكن تفتقد إلى الأمان والنظافة والجو الصحي. غالبية حدائقنا تمثل خطرا كبيرا على روادها، وعلى السيارات المتكدسة حولها والمارة في منطقتها، وكذلك على رجال المرور أنفسهم. نعم.. هناك من يضع أنامله الرقيقة فوق مرمى القمامة فيحوله إلى حدائق غناء، وهناك من يضع يده الغليظة فوق بقعة جميلة فيحولها إلى «مزبلة»، فسبحان الخلاق العظيم. وشكرا لصديقي الأستاذ الدكتور أحمد عفيفي على تلك الجولة الرائعة، التي لم تكتمل بعد وأرجو أن نكملها قريبا في مرة مقبلة. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 129 مسافة ثم الرسالة