لم أجد مخرجا لوضع النقاط على الحروف للحوار الشائك الذي يتصاعد بين السلفيين والليبراليين إلا من خلال نقطة الاعتدال التي يعتبر الدكتور إبراهيم أبوعباة لبها وبؤرتها، بما عرف عنه من قبول لدى كل الأطياف وتوازن في المواقف والرؤى.. الرجل الذي يدير الإرشاد الديني في واحد من أهم قطاعاتنا العسكرية، نفى وجود أي تحزبات دينية أو فكرية.. دافع بشدة عن لحوم العلماء وطالب وسائل الإعلام بعدم فتح باب الهوى تتبعا لفتاوى الصغار والأحداث المتحمسين للفتيا من أبناء وأحفاد العلماء.. انتقد المواقف المخجلة للإخوان المسلمين من المملكة، ووصف تدخل بعض الكتاب في القضايا الشرعية بأنه تخبيص.. أبو عباة كشف عن فتوى الشيخ الجبرين بشأن أناشيده وسماحه بتلحينها للتلفزيون السعودي، وقال إنه يتفهم تعاون الشيخ عائض القرني مع الفنان محمد عبده لكنه يرفض المسألة كمبدأ.. حوار فيه إجابات مقنعة ومقنعة لما يطفو على سطح الأحداث في الفترة الأخيرة، بدأناه بالعودة إلى نقطة الانطلاق في شقراء التي صبغت حياة الضيف وحددت رؤيته للمستقبل. ولدت في مدينة شقراء الهادئة والجميلة والحالمة، لأب وأم أميين لا يقرآن ولا يكتبان، لكن عندهما من الصلاح والنية الطيبة ما يقومان به الليل ويصومان النهار. ومع أنني عشت في مجتمع محافظ إلا أنني لم يحالفني الحظ لأدخل كلية الشريعة، وقد لا يعرف الكثيرون أن دراستي وتخصصي في اللغة العربية وليس الشريعة. أدين لمعهد شقراء الذي درست فيه المتوسطة والثانوية قبل أكثر من 40 عاما بتشكيل توجهي المهني، فقد كنت شعلة في المنتدى الفكري الثقافي في المعهد، حيث النشاط المنبري والشعري والنثري والتنافس الأسبوعي، وتخرجت فيه وقد أدرك أساتذتي بوادر حبي للغة العربية ورغبتي الشعرية عندما وجدت في ملفي بعد تخرجي كتابة لمدير المعهد يقول فيها: إن هذا الطالب لديه مشاركة في الأندية وحب لقرض الشعر ويتوقع أن يكون كذا.. وفعلا التحقت بكلية اللغة العربية في جامعة الإمام، ومنها انطلقت معيدا ثم محاضرا ثم حصلت على الماجستير والدكتوراة، وبعدها تم ترشيحي من بلدي للذهاب إلى السودان عام 1986 مديرا للمركز الإسلامي الأفريقي في الخرطوم، وهو مؤسسة دولية تعليمية تم إنشاؤها بجهد عربي مشترك، وتشرف عليها سبع دول هي؛ المملكة العربية السعودية، الكويت، قطر، الإمارات، مصر، المغرب، والسودان، وفيها أكثر من ألف طالب أفريقي من 42 دولة، وقد كبر المولود وشب على قدميه فتحول ليكون جامعة أفريقيا العالمية اليوم. • عاصرت أكثر الحكومات السودانية صخبا، فكيف أمسكت بشعرة معاوية في التعامل مع أطياف اللعبة السياسية هناك؟ عاصرت آخر مرحلة في عهد النميري، ثم حكومات الأحزاب التي تولى فيها الصادق المهدي والميرغني، ثم فترة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، ثم تولي الرئيس عمر البشير، وفي خلال السنوات الخمس التي قضيتها هناك كانت الظروف الاقتصادية والأمنية صعبة، وقد أخذت على نفسي عهدا ألا أدخل في أي خلافات مع أحد هناك، وكنت أحضر كل شيء من المملكة حتى الخبز اليومي، في ظل حالة الكرب والضنك التي صبغت تلك الفترة، لكن سماحة الناس وطيبتهم أضفت على الأجواء أريحية نادرة. • هناك من يتساءل عن وجود الإدارات الدينية في القطاعات العسكرية مع وجود لوزارة الشؤون الإسلامية. الإدارات الدينية موجودة في المؤسسات العسكرية، وسابقة قبل أن يوجد شيء اسمه وزارة الشؤون الإسلامية، سواء في وزارة الدفاع أو وزارة الداخلية أو الحرس الوطني الذي أنشئت الشؤون الدينية فيه عام 1382ه، ولكن ما يجب توضيحه أنه ليس هناك تنافس مع الوزارة، بل تنسيق وتعاون مستمر معها. • ألا يفترض مع إنشاء وزارة للشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد أن ترجع الاختصاصات لها؟ المؤسسات العسكرية لها خصوصية لوجود مدن عسكرية مغلقة، فالإمام يفترض أن يكون عسكريا ومن داخل الوحدة لأنه ينتقل بانتقال الوحدة إلى أي مكان ويبقى ببقائها، والوزارة تتفهم هذه الخصوصية كثيرا. ونحن لا نتعامل مع المرشدين والمحاضرين والدعاة في المؤسسات العسكرية -خصوصا في قطاع الحرس الوطني الذي أتولى مسؤوليته- إلا مع المتعاونين مع وزارة الشؤون الإسلامية. • هل هناك توجه فكري معين تسير عليه القطاعات العسكرية؟ إطلاقا، القطاعات العسكرية ليست لها خصوصية دينية أو اهتمامات فكرية معينة. • يعني لا يوجد لديكم إخوان مثلا؟ أبدا لا يوجد لدينا مثل هذا التيار، وأنا أتحمل مسؤولية كلامي عن القطاع الذي أعمل فيه، بل إننا نحرص على أن يكون العاملون في هذا القطاع من موظفين ومرشدين ودعاة ممن يحملون الفكر الصحيح والسليم. • تقصد الفكر السلفي؟ إن كان المقصود بالسلفي من يسير على الكتاب والسنة وألا يكون لديه انحرافات في الفكر والمعتقد فنعم، أما أن يقصد بالسلفي التحزب لجهة معينة أووصفا معينا فلا. ونحن عندما يعين أي شخص في الجهاز لا نبحث عن ماهيته ولونه؛ لأننا نفترض أن أي سعودي يتخرج في أية جامعة سعودية داخل المملكة، يحمل فكرا سليما ومنهجا رشيدا سديدا. • ألا يتم تصنيف المتقدمين من خلال المقابلات الشخصية واستبعاد من لا ترونه مناسبا؟ بدون شك، نحرص بشدة أثناء المقابلات ألا يدخل إلا من نطمئن إلى سلامة منهجه وفكره، لأن الساحة بشكل عام موبوءة، وفيها كل الأطياف والألوان، ويهمنا أن نختار من لديه قدر من الاستقامة والعلم والصلاح، وألا يحمل أية لوثة فكرية أوعقدية تخالف ما عليه علماء المملكة والمنهج الذي تقوم عليه بلادنا. • عندكم داعيات؟ ليس عندنا داعيات يتبعن للجهاز، ولكن نتعاون معهن في موسم الحج منذ عشر سنوات. ونحن من أولى الجهات التي أتاحت الفرصة للمرأة أن تساهم في مجال الدعوة. وعندنا اهتمام كبير بالنشاط الذي يوجه للمرأة المسلمة والأسرة والطفل في المدن العسكرية. • لماذا يرفض بعض المشايخ ظاهرة الأناشيد الموجهة للأطفال حاليا؟ لا أذكر أنني اصطدمت أو تلقيت لوما أو عتبا أو استفسارا من أحد من المشايخ في قضية الأناشيد. وأنا أعد أناشيد الأطفال للتلفزيون السعودي منذ أكثر من ربع قرن تقريبا بداية من عام 1406ه ثم 1412ه، كما أعددت أناشيد أخرى لقناة المجد قبل ثلاث أو أربع سنوات، وأعتقد أنه إذا ذكر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله) فعلى الناس أن تسكت لما له من قيمة وقامة نفخر بها في بلادنا، وأتذكر أنه ألقي عليه نشيد من أناشيدي وكان معجبا ومسرورا، بل إنه (رحمه الله) قدم لكتابي الذي أصدرته أناشيد للأطفال بعنوان «شدو الطفولة». • كيف تنظر لدخول بعض القنوات الغنائية على الخط ومحاولتها توظيف أصوات بعض المطربين الشباب دون موسيقى في هذه الأناشيد؟ الأناشيد ليس فيها أي محظور شرعي، لكونها تبني عند الطفل جوانب قيمية تتعلق بالقرآن الكريم أو الوطن أو اللغة العربية أو أي معنى آخر ويرددها بصوت ونغم، وهي أفضل له بكثير من سماع أشياء أخرى لا تفيد. وإذا ابتعدت عن الموسيقى كما يقول علماؤنا فتجوز. • «كما يقول علماؤنا»، هل تعني أن لك رأيا آخر تحتفظ به؟ ومن أنا ليكون لي رأي أخالف فيه كلام العلماء، ليست لي قناعة بشيء آخر ولست متخصصا في الشريعة، ولكنني أنطلق في كلامي من باب «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» وما يقوله علماؤنا الكبار، وهذا هو المنهج الذي ينبغي أن نلتزم به، ومن ثم فما دمنا نقول إنه على الطفل ألا يستمع لما يضره، فعلينا أن نوجد له البديل الذي ينفعه، وهذا مانسعى إليه. • قليل من يتوقف هذه الأيام عند كلام العلماء؟ أعتقد أن على كل واحد أن يحترم نفسه ويعرف قيمته وقدره إذا جاء بجانب العلماء. والأمة التي لا تحترم علماءها، وتتمرد عليهم غير جديرة بأن تعيش بشكل صحيح. • وهل تغيرت المنظومة الفكرية لعلمائنا بحيث أصبح لدينا علماء معاصرون وتقليديون؟ نحن نقصد بمن يطلق عليهم علماء من يصدر عن رأيهم وهم الأعلم والأتقى والأسن والأفضل، سواء من أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة أو غيرهم ممن ليسوا ضمن الهيئة، فهؤلاء مستقرة رؤيتهم وليس لديهم افتتان بشيء، أما ما نراه هنا أو هناك من حالات تخرج عن السياق العام فهي قليلة جدا، وأنا لا أعرف من أعضاء هيئة كبار العلماء من يخالف السائد في الفتوى الموجودة في بلادنا. • كأنك تشير إلى ما صدر من بعض أبناء العلماء في الفترة الأخيرة؟ هي على العموم حالات صدرت عن رغبة في الشهرة ومسايرة وشيء من الانهزام، وفي أحايين أخرى تكون اجتهادا مع النية الطيبة، والاجتهاد مقدر. • قد يكون في الاجتهاد حراك مطلوب لمسايرة الواقع؟ عندما يكون الاجتهاد من أبناء وأحفاد الكبار وهم أشخاص مغمورون لا يعرفون ولم يروا بالعين المجردة، فيفتون بخلاف ما عليه السائد وما قاله الكبار انطلاقا من توجه فكري معين في البلد، بحثا عن قفزة غير طبيعية وطمعا في الشهرة، فهذا حراك غير مطلوب البتة. • ولماذا يظل الحراك الفكري المطلوب مقيدا بالجانب الديني دائما؟ قدرنا وقضيتنا في هذا البلد شئنا أم أبينا هو الإسلام، وما نحن فيه من عز وتمكين واستقرار وأمن وخير بسبب توفيق الله عز وجل، ثم بسبب التزامنا بهذا الجانب الشرعي، وأن يحكمنا الإسلام بإطاره الرحب الفضفاض البعيد عن التشدد والتطرف والغلو في كل حركاتنا وحياتنا فكرا وثقافة وعلما، فهذا وضع طبيعي ويجب أن يكون، وإن فرطنا في هذه القضية فنحن نفرط في وجودنا، وفي الدنيا كلها لا يوجد أحد حر في أي مكان وليست هناك حرية مطلقة سقفها السماء في أي مكان حتى في أمريكا، وإنما ضوابط ونواميس ودساتير تختلف من بلد لآخر، ومن يرى حرية في بعض المتخففين من عبودية الله عز وجل فهم عبيد لأشياء أخرى من الأهواء والشياطين، وخير لنا أن نكون عبيدا لله من أن نتعبد شيئا آخر. • دكتور.. ألم تكن من الصحويين في يوم من الأيام؟ من فضل ربي علي أنني لم أدخل في هذه التيارات، ولم أتهم بشيء منها، فأنا أحترم العلماء وأضعهم على رأسي، كما أحترم الدعاة ولم أدخل معهم في إشكالات رغم انتقادي لبعضهم من منطلق أن الساحة لا تحتمل مزيدا من التمزق، فبلادنا مستهدفة، وأعداؤنا متربصون بنا ولا ينبغي أن نساهم في مزيد من التفتيت، فالساحة تتسع لي ولك، وأنا لا أتعبد الله بالمصطلحات والألقاب وإنما بالمعنى الشرعي. • هذا يعني أنك تعارض دعوة الشيخ عوض القرني لمحاكمة بعض الحداثيين تحديدا؟ قضية إخراج أحد من الدين تستطيع أن تقول فيها أن كل من قال كذا، ولكن لا أستطيع أن اقول إن بدرا أو زيدا، فالإسلام في قضية تكفير إنسان معين أو الحكم على شخص باسمه له ضوابط. فقد يكون الإنسان متأولا أو جاهلا أو له وجهة نظر في قضية معينة، لكن تقول من قال كذا وكذا ونحن نقول من سب صحابة رسول الله كائنا من كان سنيا أو شيعيا، لكن لا ينبغي أن تقول فلان ابن فلان. والأخ عوض القرني مجتهد وله مقارعات ومواجهات مع التيار الحداثي والليبرالي، ومن المؤسف أننا نجد في كتاباتنا الماضية في الصحف والروايات شيئا يتعارض مع ثوابت ديننا ومسلماتنا ويشكل خطرا داخليا. • من أية ناحية؟ من التطاول الذي يكتبه بعض الجهلاء على العلماء والمؤسسات الدينية والقضاء. • ألا تعتقد أن بعض أبناء البيت الداخلي ساهموا في فتح الباب للآخرين لهذا التطاول بمواقفهم وآرائهم المخالفة أيضا؟ إذا كان الخلاف بين أنداد من العلماء فعلى العين والرأس، ومثل هذا الاختلاف لا دخل له في فتح باب التطاول والهجوم على العلماء الكبار، فالشيخ محمد بن صالح العثيمين خالف الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمهما الله) في بعض المسائل وبقيا كبيرين في خلافهما، لكن أن يأتي صغار جدا وأحداث سن وتجربة وعلم، ثم يبدأ يخالف ما عليه العلماء الكبار بجهل فهذه مصيبة لا تقبل إطلاقا، ويؤسفني أن أقول إن بعض إعلامنا يتبنى مثل هذه الأطروحات والتوجهات ويبرزها بشكل كبير جدا، ويخطئ العلماء الكبار ويصف هذا الطرح بأنه حضاري وتنويري وواع وهذه مصيبة حقيقية. لكن لو جاءني العالم الكبير مختلفا مع قرينه فمن حقه ذلك، ما دام مستندا على الدليل الشرعي، وهذا ليس موجودا في ساحتنا وللأسف، وإنما الموجود شيء آخر تماما؛ فتجد أن من يتصدى للكتابة أشخاص غير مؤهلين من بعض كتابنا فتجده يكتب عن قضايا فقهية وشرعية بحتة وتحتاج إلى علم ودليل فيخبص فيها دون احترام للتخصص، وقيمة الإنسان دائما فيما يحسن، وأنا لا أفهم من يخالف علما كبيرا أفنى أكثر من 70 عاما من عمره في طلب العلم مثل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله) فيأتي بجرة قلم ويزعم أشياء وكأنه عالم زمانه، ثم يأتي بعض إعلامنا فيرحب بهذا الطرح لأنه يجد هوى في أنفسهم فيبرز مثل هذا الطرح، ولو جاءنا العالم الكبير وطلب أن توضع فتوى هذا العالم مكان هذا الرأي لترددوا 100 مرة ولرفضوا أن توضع فتواه؛ لأنها لا تتناسب مع ما يريدون وللأسف الشديد. • الكثير يقول إن الصحوة بدأت تستفيق من أخطائها بعد أن سيطرت على المشهد الثقافي على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية؟ نحن ما غفونا لكي نصحو، والطنطنة والشنشنة التي أطلقت عن الصحويين في إعلامنا وعند بعض كتابنا كتهمة وراءها ظلال معينة، وكأن الأمة نامت وفي غفلة جاء زيد من الناس فطبل عليها لتصحو. • حتى علماء الصحوة؟ يا أخي من يسمي بعض العلماء الحاليين بهذا المسمى فبماذا يسمي علماءنا الكبار الذين نعرفهم ومن لا نعرفهم. هل يسميهم علماء صحوة أيضا أم ليبراليين، ومن أطلق هذه التسمية بماذا يسمي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله) مثلا؟ • يسمونهم تقليديين. وما الفرق بين التقليدي والصحوي إذا كان الأبناء الذين يسمونهم صحويين خرجوا كلهم من عباءة الشيخ ابن باز وغيره من علمائنا الكبار وهم تلاميذهم. أما إن كان هناك شيء لا نعرفه نحن فهذه مسألة أخرى. • الصحويون لديهم القدرة على التفاهم والتقارب مع الليبراليين بخلاف التقليديين المتشددين؟ كلها تصنيفات ضارة ببلادنا، وأي تصنيف يقال لأحد خلاف أنه مسلم يهدد الوحدة الوطنية وليس من مصلحتنا. • لكن من الطبيعي أن يكون هناك فكر وتيار مختلف عن الآخر؟ بلادنا لا تحتمل بوضعها الخاص كبلد إسلام وتوحيد وكعبة وحرم أن يكون فيها تيارات سوى من يخدم الإسلام، والمسألة مقبولة في خلاف وجهات النظر لكنها مرفوضة فيما عدا ذلك، كأن يقال عالم تقليدي وعالم صحوة فهذه ليست من اللياقة ولا نعرف لها أصلا في الإسلام. • ومارأيك فيما يطرح حاليا عن ذوبان بعض الدعاة في الساحة وتغير في خطابهم الدعوي، فهناك من يقول إن عائض القرني أصبح يمتدح فرنسا لأنه يزورها من وقت لآخر، وإن سلمان العودة يتحدث عن الثقافة الغربية ومفكريها بتوسع؟ كل ظرف أو مرحلة لها خطاب. ولا أقصد هنا أن الداعية متذبذب، وإنما أقصد الوسيلة وأسلوب الطرح. لست مع فكرة ذوبان الدعاة لأننا عندما ننظر للساحة بشكل عام نجد أن هناك استقرارا ووضوحا في الرؤية والطرح دون غبش. أما قضية أن يجتهد طالب علم أو داعية أو عالم كأن يأتي من يثني على جوانب النظام في فرنسا أو بريطانيا أو جوانب أخرى في أمريكا، أو أن أثني على شخص غير مسلم، فأعتقد أنه من باب قوله تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) وهذا من العدل الذي أمر به الإسلام وليس فيه شيء من الذوبان. • وهل مجتمعنا بحاجة إلى داعية يزور أوروبا، أو يخرج لنا من مسجد في بريدة مثلا؟ الداعية لكي يؤهل للدعوة ويكون صوته مسموعا ويلقى القبول لدى الآخرين لا يحتاج للذهاب إلى أوروبا أو أمريكا؛ لأن العالم أصبح قرية صغيرة، والداعية لا ينبغي في الوقت نفسه أن يكون منزويا في مسجده، وأعتقد أن أعظم دعاتنا وأكثرهم توازنا وحكمة واعتدالا، هم الكبار من أمثال؛ سماحة الشيخ عبد الله بن حميد، الشيخ محمد بن إبراهيم، الشيخ عبد الرحمن السعدي، الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين (رحمهم الله جميعا)، والأحياء الموجودين وربما بعضهم لم يسافر إلى خارج المملكة، ولكن ذلك لم يقلل من شأنهم أبدا. فعلماؤنا ودعاتنا لا يعيشون في صومعة أو عزلة بل يعيشون مع العالم، وكان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز إذا جاءه ضيوف من أي بلد في العالم يسأل عن أخبار فلان وعلان، وكيف عمل المؤسسة الفلانية، وهكذا. فلا يصور علماؤنا وكأنهم في جزر معزولة عن الناس. • ما رأيك فيما قاله محسن العواجي من أن الفكر الإرهابي خرج من المذهب السلفي؟ هي وجهة نظر خاطئة وأختلف معها 100 في المائة، لأنه لا يوجد فكر أو تيار أو توجه يتشدد في قضايا التكفير كما يتشدد الفكر السلفي، ولا يوجد منهج يعرف لولي الأمر حقه ويكفر الخروج على الحاكم مثل الفكر السلفي، فلا يلتقي كلام العواجي مع المنهج السلفي. وأنا أعتقد أن الارهاب فكر وافد جاءنا من أفغانستان وجهات أخرى عندما التقى بعض الجهلة مع فئات لديها مشاكل مع أنظمتها وسلطاتها، فاستغلوا جهل هؤلاء وحداثة التزامهم واستقامتهم. • الكل يقول إن مصدر البلاء الذي أصاب المجتمع السعودي والعالم الإسلامي جاء مع دخول الإخوان المسلمين؟ الإخوان المسلمين لم يكونوا على قدر من الحكمة والسياسة، وما رأينا من مواقف لهم تدل على أنهم لا يتمتعون بالحكمة المطلوبة، وإذا رأينا مواقفهم من كثير من القضايا -وبالذات ما جرى في المملكة من تفجيرات واستهداف من الفكر المنحرف الضال للأسف- لم نجد منهم الموقف الشرعي المنطلق من الكتاب والسنة، وحتى السياسة التي تحكم مواقفهم لم نجدها، وهذا يؤكد أنهم حتى الآن لم ينضجوا النضج الصحيح، وكان ينبغي وقوفهم مع هذا البلد؛ لأنه بلد الإسلام، ومهما كان الأمر فبلادنا القدوة التي ينبغي أن يحافظ عليها من يريد خدمة الإسلام. • دكتور.. لماذا هاجمت الشعر النبطي في إحدى مقابلاتك التلفزيونية؟ دعني أستدرك ما قلت بكلام أقوله لأول مرة، فأنا استعذب الشعر النبطي وأنظمه وأتذوقه جيدا، فوالدي (رحمه الله) شاعر، وأنا أعرف أن الشعر العامي حسنه حسن وقبيحه قبيح، فأنا لست ضد الشعر الشعبي ولكن ضد الاحتفاء به بوضع مجلات وقنوات على حساب اللغة العربية الفصحى، وهناك قامات شعرية تكتب شعرا في خدمة الوطن من أفضل أنواع الشعر. • لماذا رفضت أن تغنى أشعارك؟ بعض الفنانين طلبوا عن طريق أحد الأشخاص أن يغنوا بعض شعري، فقلت لهم إن لي وجهة نظر فلا أريد ذلك. • الشيخ عائض لم يمانع في التعاون مع الفنان محمد عبده؟ الأخ عائض مجتهد وله وجهة نظره وأقدرها تماما. • بعض طلبة العلم انتقد هذا التعاون واعتبره أشبه بالسقطة للشيخ عائض. لا ينبغي التشديد على الشيخ عائض في هذه القضية، فاجتهاده مقدر ومحترم، ومشكلتنا أحيانا أنك قد تحسن الدهر كله ثم تكبو مرة، ثم نقول ينبغي ألا يقوم، وهذا خطأ. الآن لا تفتح أية قناة إلا ووجدت فيها الأخ عائض فسيجتهد ويخطئ، وسيخطئ محمد العريفي وإبراهيم أبو عباة وغيرهم، ولكن حقي عليك أن تلتمس لي العذر وأن تناصحني، أما إن كبا داعية أو مفكر فنمسح ماضيه المشرق وحسناته لمجرد أنه اجتهد وأخطأ فهذا ليس من الحكمة أو العقل. • أنت ترفض مبدأ التعاون مع الفنانين تحديدا؟ المسألة نظر واجتهاد، وأناشيدي التي كتبتها للأطفال وقدمتها للتلفزيون السعودي عام 1386ه، كانت ستنشد وتلحن بالموسيقى من قبل الفنان عبد القادر حلواني (رحمه الله)، فاستشرت الشيخ عبد الله بن جبرين (رحمه الله) في الموضوع فقال لي: أنت لك أجر ما عملت وهم يتحملون مسؤولية الموسيقى، فكنت أمام خيارين؛ إما أن أسحب أناشيدي فيحل محلها (قطتي وكرتي)، أو أن أبقي على المعاني السامية التي كتبتها وهم يتحملون مسؤولية الموسيقى، فآثرت الثانية، وهذا ما حدث. • هل ما زالت اللغة العربية تعيش وضعا مأزوما في مجتمعنا؟ اللغة العربية تعيش أزمة في حياتنا وحيثما توجهت في الشارع والمدرسة والبيت ووسائل الإعلام يرتد إليك البصر خاسئا وهو حسير، فالأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية لا تعد ولا تحصى، وزد على ذلك أنك تجد اللغة العربية كسيرة بائسة أمام اللغة الإنجليزية الطاغية، واللحن في الحديث تجده لدى المذيعين في القنوات الفضائية التي اختيروا لها بعناية فمابالك بغيرهم، أما عن التعليم فتحدث بأسف شديد فالمعلم أو المعلمة لا يستطيع أن يكمل درسه باللغة العربية فتجده يلجأ للعامية أو العربية المكسرة وهذا محزن. أما إذا ذهبت إلى المستشفيات والبنوك والمؤسسات الكبرى فستجد العربية تلطم خدها وتولول مما أصابها. • المشكلة تحتاج إلى قرار؟ أتفق معك في ذلك، فاللغة التي هانت على أهلها بحاجة إلى قرار من ولي الأمر لإعادة الاعتبار والقيمة لها. ومما يحزنك أن تجد في بعض الدول لغات ميتة فقاموا وأعادوا لها الحياة من جديد وأخرجوها إلى الناس، كاللغة العبرية واليابانية والكورية والتركية وغيرها، فيما نحن وللأسف لا ندرس اللغة العربية في جامعاتنا العلمية حيث تدرس اللغة الإنجليزية، وهذا من الخذلان الشديد، وعدم احترام هوية الأمة وحضارتها وثقافتها وتاريخها، ولا أقول سوى: إلى الله المشتكى.