(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) صدق الله العظيم، بهذه الآية الكريمة تحطمت الأصنام وزالت من حول الكعبة عند دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحا مكةالمكرمة. في الوقت الذي أداوم فيه على حضور معرض الكتاب الدولي بالقاهرة منذ عشرين عاما، إلا أنني أعتبر نفسي وكأنني لم أفرح به كما فرحت هذه المرة، إذ طالعتنا الصحف (السعودية) بعناوين تفيض فرحا وبشرى وكلها تجمل وتبرز بشكل لافت قرار أو حكم المحكمة العليا وهي تلم شمل الزوجين: فاطمة العزاز ومنصور التيماني وطفليهما نهى وسليمان. واللذين عاشا مفرقين بحكم شرعي جائر منذ خمس سنوات بدعوى عدم تكافؤ النسب. وهذه القضية القبلية المتزمة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة.. بدأت تظهر بشكل جلي في الفترة الأخيرة ولا من يوقفها.. لقد قرأنا وسمعنا وشاهدنا الكثير من القصص المأساوية.. فليست قصة فاطمة ومنصور هي الوحيدة.. ولكنها القضية التي أشغلت الرأي العام وتابعها بلا ملل المحامي عبدالرحمن اللاحم وغيره وأكملها المحامي أحمد السديري الذي كلفته (هيئة حقوق الإنسان) برفع لائحة طعن في قضية ما عرف ب (طليقة النسب). والحمد لله، فقد تأكدت عدالة القضاء بعد أن حكمت المحكمة العليا بنقض حكم (تكافؤ النسب) وهو حكم نهائي ونافذ وغير قابل للنقض. قبل سنتين دعاني الأستاذ ممدوح الشمري أحد المستشارين ب(هيئة حقوق الإنسان) لمنزله في حي أشبيليا شمال شرق العاصمة الرياض، وفوجئت بوجود الأخ المكلوم منصور التيماني وابنته نهى ذات الثلاث سنوات بوجود عدد من الأشخاص أذكر منهم الدكتور محمد الزلفا، وكان منصور يلاعب طفلته وهي تنظر لنا باستغراب وذهول وكأنها تسألنا: لماذا هي بيننا.. فليس هناك من يماثلها في العمر.. وعرفت أنها بصحبة والدها في الرياض.. أما والدتها فاطمة العزاز وابنها سليمان والذي لم يبلغ السنتين بعد.. فهي نزيلة (دار الحماية الاجتماعية في الدمام) رافضة بقاءها مع إخوتها (مفضلة السجن على البقاء معهم) الذين أقاموا دعوى لفصلها عن زوجها بسبب واهٍ.. وهو أن زوجها من قبيلة أقل مستوى من قبيلة وعشيرة زوجته.. فرغم أننا وقبلنا نردد قول الشاعر: لا تقل أصلي وفصلي إنما أصل الفتى ما قد حصل وأن مثل هذه الواقعة تبرز الروح القبلية والعشائرية والمناطقية والأسرية لتحل محل الانتماء للوطن الواحد.. فنحن بحاجة ماسة إلى بناء علاقة جديدة داخل الأسرة تقوم على العدالة والمساواة والاحترام، بدلا من التسلط وفرض بعض المفاهيم البائدة والبالية. وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما يروي (الفتنة نائمة لعن الله من يوقظها). أذكر قبل سنوات وكنت في ضيافة المؤرخ والنسابة الروائي الشهير عبرالرحمن البطحي رحمه الله أني سألته عن ظاهرة بروز أشجار العائلة وصناديق العائلة وإبراز الانتماء القبلي أو العشائري على الانتماء للوطن.. وأن البعض بدأ يستخرج صكوكا من المحاكم الشرعية بأنهم ينتمون إلى قبيلة كذا أو عشيرة كذا.. فرد علي قائلا: إن هذه الظاهرة تمثل الحلزون الملتف لداخله ونحن بحاجة إلى أن ينفتح الحلزون إلى الخارج وأن يكون الوطن والانتماء الوطني هو الأساس. لقد كان لدور خادم الحرمين الشريفين وموقفه النبيل بإحالة القضية إلى المحكمة العليا.. أثره ولمسته الإنسانية التي أعادت الفرحة ليس إلى الزوجين وطفليهما وإنما لكل مواطن مخلص بحب وطنه. اطلعت على عدد من صحفنا (السعودية) في القاهرة فوجدتها جميعا مشرقة تحمل بشرى في صفحاتها الأولى (بعد سنوات التفريق .. ملك الإنسانية يجمع شمل فاطمة ومنصور ضحيتي تكافؤ النسب) ولكن الذي أفرحني أكثر هو ما حمله عدد صحيفتي المفضلة «عكاظ» إذ وجدتها كما عهدتها مبتهجة ومعنية بإبراز هذه القضية ففي عدد واحد هو عدد يوم الإثنين 17 صفر 1431ه (1 فبراير 2010) نجدها تنشر الخبر في صفحتها الأولى وتنشر تفاصيله في صفحتها الثانية (حقوق الإنسان: الحكم يؤكد عدالة القضاء ومرجعيته الأساسية الضامنة. الجمع بين طليقي النسب فاطمة ومنصور خلال يومين، 10 قضايا تكافؤ نسب نظرتها المحاكم الشرعية، 90 في المائة من قضايا الخلع تنتهي بالطلاق لعدم تكافؤ النسب). وفي رأي الصحيفة (افتتاحيتها) نقرأ: (محاكمنا والتفريق لتفاوت النسب) فبعد إشادتها بالحكم تدعو إلى أن أمام محاكمنا عددا من القضايا المماثلة تتعرض فيها أسر للفتك تحت دعوى عدم تكافؤ النسب. «.. والمتوخي أن يمعن القضاة النظر فيها قبل إصدار أحكام بالتفريق تعيد مأساة الزوجين اللذين فرقهما حكم وأعادت المحكمة العليا رأب الصدع بينهما..». يأتي بعده مقال (شكرا فاطمة) للدكتور سعد عطية الغامدي بزاويته (للحروف لسان) يختتمه بالمطالبة بتكريم فاطمة.. «.. تكريما رفيعا وتقديرا عاليا لأنها انتصرت لنفسها ولطفليها ولزوجها وحفظت بيتها وأنشأت للمجتمع قاعدة تقارب وتلاحم وكسرت سطوة ذكورية مسكونة بالنزق والغلظة.. أم سليمان: فاطمة هذه رمز نسائي حقوقي بامتياز..». يليه مقال: (يوم العدالة.. يوم منصور وفاطمة) للدكتور حمود أبو طالب يقول إن قضية فاطمة ومنصور «.. قضية شوهت المجتمع السعودي ومؤسسته القضائية بسبب اجتهاد خاطئ لم يقدم اعتبارا لحقيقة أن الشريعة الإسلامية هي منبع الحق والخير والعدالة والرحمة والإنسانية. آلمتنا كثيرا قضية هذه الأسرة وأحرجتنا ونبتت على أطرافها كثير من الأسئلة المتوجسة عما يمكن أن يحدث مستقبلا إذا لم تتم مراجعة الحكم الصادر فيها»، واختتم مقاله بقوله: «لا بد أن نثق في العدالة لا بد أن تهبط وإن تأخرت قليلا، وها هي تأتي من خلال محكمة يتولى مسؤوليتها أهل علم وشجاعة على الصدع بالحق وضع مليكنا العادل ثقته فيهم حينما أحال القضية إلى ذمتهم..». وتشارك أسماء المحمد بمقال رابع ضمن زاويتها (وطن للحرف) (صقيع أسطورة تكافؤ النسب) وتقول عن هذه القضية.. «.. ثم تصفعنا الوقائع وتسقينا أقداح المرارة مرارة متابعة قضية خدشت كل قيمة نؤمن من خلالها بحقنا في الاختيار وحق أن تحترم هذه الاختيارات ما دامت بمباركة ولم تقترب من الحرمات.. جريمة فاطمة أنها اختارت وخضعت لمعايير الإرث الاجتماعي في كلتا الحالتين عندما قررت الزواج وعندما صمدت لرفضها فكرة انتهاك خيارها وخصوصيتها، يطالبها المجتمع بدفع فاتورة باهظة الثمن هي وأطفالها..». بعدها يأتي الصديق هاشم الجحدلي ببعض الكلام (الحكم النبيل) قائلا: «.. فحكم النقض.. رغم أنه منطقي ومتفق مع الشريعة والعقل ومحقق للبعد الإنساني.. إلا أنه أيضا يقفل ملفا أسود كاد ينشب أظفاره في واقعنا، ويعيد إحياء ما لا علاقة له بالإسلام ولا القيم الإنسانية.. إن الحكم بالنقض الذي رفعته المحكمة العليا حكم نبيل مثلما هو حكم شرعي.. وهكذا يؤكد الواقع أنه كلما كان القضاء نبيلا كانت الحياة أجمل والأفعال أسمى، والمستقبل أكثر بهجة وبهاء». ونجد المذيع الشهير والكاتب ياسر العمرو يشير في مقاله (منصور وفاطمة: قصة الحب والصبر) وهو يروي قصته عندما استضاف الزوج منصور في قناة (الإخبارية) قبل أربعة أعوام «.. مع بداية الحادثة. وهو يناشد أهل الوجاهة والمعروف السعي إلى إنقاذ أسرته شاردا طوال وقته بالألم والدمع، ويد صغيرته نهى لا تفارق يده متمتما (حرام عليهم)، أما فاطمة فكانت تردد: دار الحضانة أحب إلي مما يدعونني إليه فقضت فيها سنوات عجافا وحسبكم أن تحرم أم من رؤية فلذة كبدها أربعة أعوام متصلة لا وصال بينهما سوى عبر الصور.. إن الحادثة بظرفها الزمني وتحولاتها تفتح نافذة جديدة لآفاق العدل وإيجاد قواعد قضائية صارمة تكفل تصحيح التجاوزات في السلك القضائي..». يليه حبيبنا عبده خال ضمن (أشواك).. اعتذار من وزارة العدل.. وفيها: «.. تلك القضية كان من الممكن أن تموت في مهدها لو أن الزوجين تخليا عن بعضهما بسبب حكم قضائي لم يراع الجوانب الأسرية لتلك الأسرة الصغيرة كما أنه لم يراع بأن في تعميمه تمهيدا لتقويض بيوت كثيرة سينهض الأقارب لتخريبها بحجة (عدم تكافؤ النسب)..». واختتم مقاله بقوله: «.. وأعتقد أنها ستكون بادرة حميدة لو أن الوزارة قدمت اعتذارها لما سببته من ألم لهذين الزوجين وأن تبادر بتقديم يد العون لهما بمبلغ مالي كبدل ضرر يمكن الأسرة الصغيرة من العودة للحياة بثقة أكبر.. فمع صدور هذا القرار سوف تموت النعرة القبلية التي أراد البعض جعلها سيفا على رقاب العباد». والمقال الثامن للأستاذة جهير المساعد في زاويتها (ورقة ود).. فاطمة ومنصور وغد آخر، تقول فيه «.. يا الله هل يمكن أن يحدث تشابه بين مفاهيم بالية لم يطل لها عمر بعد الجاهلية لأن المعروف تاريخيا أن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام زوج زينب بنت جحش الأسدية من زيد بن حارثة وكان عبدا لخديجة رضي الله عنها. اعتقته وتبناه النبي الكريم..» وقالت: «.. وفي السنة مقياس الحكم على الراغب في الزواج من ترضون دينه وخلقه ولم يكن واردا نسبه. كل هذا موروثنا الإسلامي المعروف والمشهود والمحفوظ...» واختتمت مقالها بقولها: «.. لكن هل يظل السؤال شاخصا هل يواكب الفقيه المعاصر بأحكامه وفتاواه واجتهاداته ما حدث على الأرض منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى اليوم من متغيرات اجتماعية واقتصادية وعلمية تركت بصماتها واضحة على البيت المسلم وعلى السمعة الإسلامية.. وكلمة أخيرة، كيف يتم تعويض فاطمة ومنصور عما فات؟». وأخيرا يشارك العزيز خالد السليمان ب (الجهات الخمس) بمقال: (جدار فاطمة القصير) قائلا: «.. المحكمة العليا لم تنتصر للم شمل أسرة صغيرة فرقتها العادات والتقاليد وحكم قضائي لا روح فيه وإنما انتصرت للحق والعدل والإنصاف.. ويبقى السؤال من يدين بالاعتذار لهذه الأسرة الصغيرة عن ضياع خمس سنوات من عمرها وضع كل فرد فيها نقاط التجاذب العنيف في دوامة بددت الوقت وأفقدت التوازن وحرمت السعادة.. ومن يعوض الوالدين عن عذابات التشهير والحرمان والاحتجاز، ومن يعوض الطفلين عن حرمان الحياة الأسرية المستقرة والعاطفة والحنان..». هذه شهادات صدق نابعة من القلب في قضية أزعجت الكثير.. وفي عدد واحد من صحيفة واحدة.. فشكرا ل «عكاظنا» عندما فتحت صدرها وصفحاتها للجميع ليقولوا ما يرونه مؤلما وما يمكن تقديمه من علاج. وختاما، أدعو إلى عمل جماعي مشترك لشكر المحكمة العليا على شجاعتها بنقضها الحكم الجائر.. ولتكريم ضحيتي الحكم والإشادة بصبرهما ورفضهما للأمر الواقع.. فالحق والحقيقة مهما طال انتظارهما فلا بد آتيان. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 143 مسافة ثم الرسالة