الجدل الدائر حول السماح للبعثيين بالمشاركة في الانتخابات العراقية هو مثال آخر على مفهوم «حدود القوة» الذي يتحدث عنه أحيانا الدبلوماسيون والسياسيون. قد تملك أقوى جيش في العالم، لكنك تعجز عن استعماله أو قد تتضرر من استعماله. في نهاية المطاف يستعمل الإنسان قوته للحصول على مكاسب أو للتخفيف من خسائر. لكن هذا الأمر لا يتحقق في معظم الأحيان. في أفغانستان توصلت الحكومة وحلفاؤها الأجانب إلى أن السبيل الوحيدة لاستعادة السلام والنظام العام هو محاورة المتمردين من طالبان وغيرهم. وفي اليمن أقر رئيس الوزراء خلال المؤتمر الذي عقد في لندن بأن حكومته تؤمن بالحاجة إلى وسائل سلمية لحل الأزمة السياسية في البلاد. بالنسبة للحكومة العراقية فإن حزب البعث قد انتهى سياسيا وهي تريد إنهاءه قانونيا من خلال حرمان أعضائه من دخول البرلمان والحكومة. لكن جولات العنف الأخيرة تظهر أن هذا الحزب لازال حيا وإن كان ضعيفا أو مترنحا. وأظن أن معظم البعثيين السابقين، يريدون تجاوز هذا الحزب والخلاص من إرثه الدامي. فهو لم يعد طريقا إلى الثروة والسلطة كما كان الأمر قبل 2003، بل هو عبئ يصعب الدفاع عنه أو تبرير الانتماء إليه. لكن السياسة ليست لونا واحدا أو منظورا مشتركا. الأحزاب والايديولوجيات غالبا ما تكون أقنعة لمصالح ثابتة أو مصالح في طور الإنشاء. كل واحدة من دوائر المصالح هذه تجمع في داخلها شرائح من الناس الذين يبحثون عن دور أو وسيلة للدفاع عن أنفسهم أو على الأقل تحديد مواقعهم وعلاقتهم مع المحيط. ربما لا يشارك جميع الناس في الحياة السياسية أو ربما لا يعبؤون بالسياسة أصلا. لكنهم في كل الأحوال يريدون أن يحددوا مكانهم كي يحتموا به ساعة الأزمة. المصالح السياسية مثل البضائع في السوق، ربما تخسر شعبيتها ورغبة الناس فيها، لكن أصحابها لا يرمونها في صناديق الزبالة إلا إذا ضمنوا بديلا مناسبا. وما لم يحصلوا على هذا البديل فسوف يصرون على مواصلة عرضها ومحاولة بيعها مهما كان اتجاه السوق. ينطبق الأمر نفسه على سوق السياسة. لافتات مثل الحزب الشيوعي وحزب البعث وأمثالها لم تعد جذابة في سوق السياسة كما كان حالها قبل عشرين سنة. ولعل بعض أصحابها قد تخلوا عنها بعدما وجدوا بضاعة أكثر جاذبية. إذا أخذنا العراق كمثال فسوف تجد رجلا بقي يدافع عن حزب البعث حتى الأسبوع السابق لسقوط النظام القديم، لكنه الآن يرأس المجموعة البرلمانية للحزب الإسلامي الذي تعرض للتنكيل على يد الحزب السابق. هذا إذن رجل عثر على بديل فلم يعد مهتما بتاريخ مضى. لكن ليس كل الناس كذلك. تفجر الجدل حول حزب البعث وإمكانية السماح له بالمشاركة في العملية السياسية بعدما استبعدت هيئة المساءلة والعدالة عددا من المرشحين للانتخابات القادمة أبرزهم صالح المطلق الذي كان مقربا من زوجة الرئيس السابق صدام حسين. يقول المطلق بتلميح يشبه التصريح إنه ربما يتبرأ من حزب البعث لكنه لن يفعل ذلك في العلن. وتبريره يبدو منطقيا: أعداء البعث لن يصوتوا له في الانتخابات بسبب تاريخه، لكن البعثيين الحاليين أو السابقين سوف يدعمونه لأنهم بحاجة إلى من يحميهم ويدافع عن مصالحهم. بعبارة أخرى فإن طريقه إلى البرلمان يمر عبر البعثيين السابقين أو الحاليين، فإذا تخلى عنهم فلن يحصل على شيء. حجمه السياسي محسوب بعدد مؤيديه، فإذا تخلى عنهم فلن يكون شيئا. هذه الإشكالية ليست مشكلة للمطلق وأمثاله، بل هي في المقام الأول مشكلة للحكومة العراقية التي عليها أن تخرج بالبلد من حال التنازع والفوضى. المسألة إذن ليست موقفا نظريا من الحق والباطل، بل هي عملية سياسية تقتضي الامتناع عن استعمال القوة التي مهما تضخمت فإن لها حدودا. العراق مثل أفغانستان بحاجة إلى مساومين وصناع صفقات أكثر من حاجته إلى قادة جيوش. الحسم هنا ليس في الجبر بل في اتخاذ قرار يجمع المختلفين ويدواي الجراح، حتى لو اقتضى تقديم تنازلات مؤلمة. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 109 مسافة ثم الرسالة