عانى العراق خلال صيف العام الماضي من عمليات عسكرية وتفجيرات استهدفت المدنيين العراقيين في بغداد، وبعض مدن الشمال، كما استهدفت مقار بعض الوزارات السيادية في البلاد. وقيل يومها إن هذه العمليات ليست إلا جزءا من إرهاصات الانتخابات النيابية المقبلة، ومحاولة لإحراج حكومة نوري المالكي، على شكل صراع بين أحزاب سياسية لا تريد الاستقرار للعراق، وتريد أن تعيد البلاد إلى الرحم الطائفي الذي ولدت فيه الدولة الجديدة بعد الغزو الأمريكي عام 2003م. ولا شك أن الغزو الأمريكي وما تلاه من احتلال أحزاب سياسية موالية لإيران لمفاصل السلطة السياسية في بغداد، وتقديمها لنفسها للناخبين على أساس دستور عام 2005م ، الذي تفوح الرائحة الطائفية من كل جوانبه، قد جعل الشعب العراقي يئن من وطأة احتلالين، احتلال غربي وآخر شرقي، تحت عباءة طائفية قاتمة. واليوم يأتي مهندس الغزو الأمريكي للعراق، ورفيقه مهندس الغزو الإيراني، واللذان يتبوآن مركزين متقدمين في هيئة المساءلة والعدالة، والتي كانت تعرف بهيئة اجتثاث البعث، بعمليات تطهير طائفي سياسي في العراق، تحاول إبعاد حوالي خمسمائة من أعيان البلاد وسياسييها المرشحين للانتخابات، بدعوى أنهم كانوا مقربين لحزب البعث في يوم من الأيام. القائمة الإقصائية عن الانتخابات العراقية تشمل أحزابا وشخصيات بارزة في المجتمع العراقي ومن الساسة العراقيين بعضهم وزراء مثل عبد القادر جاسم العبيدي، وزير الدفاع الحالي، وصالح المطلق رئيس جبهة الوفاق الوطني، وظافر العاني رئيس جبهة التوافق العراقية، ومعظمهم أعضاء في البرلمان الحالي وزعماء لتجمعات وطنية عراقية، لا تدين بالولاء لأي من دول الجوار الجغرافي. وعملية التطهير السياسي الحالية ترمي إلى إبعاد مناطق وشرائح معينة من أبناء الشعب العراقي عن القوائم الانتخابية وعن صناديق الاقتراع ليستمر بناء الهيكل الطائفي الذي بدأ تشييد قواعده عام 2003م ، واستمر عام 2005م . كان الجميع يعتقد أن انتخابات 2010 في مارس المقبل ستمثل نقلة نوعية في تاريخ النظام السياسي الجديد في العراق، وستجعله ينتقل من مرحلة أولى، ذات أبعاد ضيقة وحصرية إلى مراحل أوسع وأرحب لتشمل كافة شرائح وتنوعات الناخبين والمجتمع العراقي . ولكن اليد المسؤولة عن احتلال البلاد ومقتل مليون عراقي، والتي باتت مطاردة حتى في عواصم متعددة كانت يوما تتسيد فيها المجالس، إضافة إلى أيد أخرى لطخت بدماء العراقيين، وظهرت خلفياتها وارتباطاتها على الملأ، بل وأدينت من قبل بعض المحاكم العسكرية، تحاول اليوم أن تعيد العراق إلى نقطة الصفر، بحيث يعود التشرذم والتقاتل بين صفوف العراقيين على أساس الهوية، وينتفي بناء المواطنة على أساس الانتماء العراقي الواسع . ويتساءل الكثيرون عن لجنة اجتثاث البعث، أو ما درج على تسميتها ب (هيئة المساءلة والعدالة) وهل هي نسخة من مجلس صيانة الدستور في إيران، والذي طالما تعسف في استخدام صلاحياته بإقصاء من يريد من المرشحين، وتزكية بعض المحسوبين على تيارات معينة. وهكذا تعيد التجربة الإيرانية تطبيق نفسها على مؤسسات الانتخاب في جارتها العراق، من قبل أياد محسوبة عليها. يتساءل الكثيرون أيضا عن نتائج مثل هذه العملية الإقصائية، ومن هو المستفيد منها، ومن هو الخاسر، وما هي انعكاساتها على الوطن العراقي وجسده السياسي . وكل هذه الأسئلة شرعية، وهي لا تنبئ بخير لمستقبل العراق السياسي، فكما كانت انتخابات 2005م محصورة ومقصورة على طوائف معينة، وكما انتجت لنا عمليات قتل وشقاق وصراع لا نهاية لها، فإن عمليات الإقصاء والتطهير السياسي الحالي تنبئ كذلك بشر مستطير على العراق وأهله، وصراعات طائفية مستمرة . وستبقى بعض دول الجوار المستفيدة الحقيقية من مثل هذه الصراعات فأي استقرار للعراق سيعني منافسة وتطورا للجارة اللدودة القديمة، التي لا تخفي للعراقيين أطماعها في الاستحواذ على نظامهم السياسي، قبل أن تصادر أراضيهم وآبار نفطهم ، وإرادتهم السياسية . والأحزاب الطائفية تخشى على الدوام من قيام نظام عربي وطني بالعراق، وهي تريد أن تستمر سيطرتها على مفاصل السلطة، حتى لو عنى ذلك تغييب إرادة الجماهير العراقية التي سئمت الصراع وانعدام الأمن، وتطمح إلى العيش بأمان وبناء وطنها ومجتمعها بسلام وطمأنينة. وحتى الولاياتالمتحدة التي هي مسؤولة في المقام الأول ، كقوة احتلال عما أصاب العراق من تفكك سياسي واجتماعي، فإن مسألة استخدام العصا الطائفية المدعوة بهيئة اجتثاث البعث قد أقض مضجعها، وبات نائب رئيس الولاياتالمتحدة يبحث جديا مع الحكومة العراقية فتح كافة السبل السياسية لجعل مسألة الانتخابات مسألة ديموقراطية شفافة، وأن ترجأ أي صراعات سياسية إلى ما بعد انتهاء مرحلة الانتخابات. وإذا لم تتمكن حكومة المالكي من ردع ما يسمى بهيئة اجتثاث البعث والأيدي التي تحركها، فإنها ستقضي على مستقبل العراق، وسترهن هذا المستقبل لمزيد من العنف وعدم الاستقرار ، وهو ما لا نريده لشعب العراق العزيز . للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 119 مسافة ثم الرسالة