لعله سبك جديد لمفهوم تحويل الإنسان إلى آلة. أردت أن أخرج ذات صباح؛ فوجدتني أعبئ جيوبي بجوال ذات اليمين وآخر ذات الشمال، وأتفقّد آلة كانت في يدي، وأتجه للجهاز المحمول لأصحبه، وأعيد جهاز التحكم (الريموت) إلى موضعه، لأخلص بعد ذلك إلى السيارة وتوابعها وملحقاتها ! إنها صحبة تحيط بالإنسان، بدءا من نومه حين يضع المنبه أو الجوال، ومرورا بخيالاته قبل النوم، التي هي انعكاس لما رآه على الشاشة، أو في الشبكة العنكبوتية، وقوفا عند أحلامه المنامية التي أثرت عليها الشاشة، ولعل المنام خير تعبير عن التأليل؛ حيث يتجرد المرء من المقاومة والتمثيل، ويستسلم للمؤثرات الحقيقية، ولا يكاد حلم يمر إلا والآلة حاضرة فيه، ومعظم ما كان خيالا في المنام في عصور مضت، أصبح حقيقة؛ فالإنسان يطير، ويعيش في عالم من الغرائبيات والعجائب لا ينتهي، ويشاهد الأموات، ويسمع حديثهم! ولعل المنام أكثر تمردا من اليقظة على الواقع؛ فلا زال في الأحلام متسع لمشاهد مركبة، وصور غريبة، لا وجود لها في المشهود الحي، وهو أكثر تعبيرا عن التأثر بالأشياء؛ حيث يتجرد المرء من التكلف ويستسلم للاوعْيه. وحين يصحو المرء؛ فأول ما يفعله هو الاتجاه لمصدر الصوت المنبه ليسكته، ثم يحرك زر الكهرباء، ليدخل في نوبة جديدة من دوامة الآلة! وإذا كان الأئمة والأسلاف يتحدثون عن أثر الصحبة؛ حتى تكلم ابن تيمية في كتابه الاقتضاء وغيره، عن أثر صحبة الحيوان؛ كرعي الإبل أو الغنم، مشيرا إلى حديث أبى هريرة رضي الله عنه في الصحيحين، عنِ النبى صلى الله عليه وسلم قال: « الفخر والخيلاء في أصحاب الإبلِ، والسكينة والوقار في أهلِ الغنم ».. وعقب بقوله: «الآدمي إذا عاشر نوعا من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه، ولهذا صار الخيلاء والفخر في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم، وصار الجمالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة، من أخلاق الجمال والبغال، وكذلك الكلابون، وصار الحيوان الإنسي، فيه بعض أخلاق الناس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة؛ فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة، توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي».. فهل نتوقع أن الملابسة الدائمة للآلة لن تكون مؤثرة على الإنسان ؟ وهل نظن أن الإنسان يعجز عن تأنيس الآلة لو أراد ؟ لقد ركن الإنسان إلى المنتج الصناعي لأنه رياضي لا مفاجأة فيه ولا غدر ولا خداع، بينما الناس يتظاهرون وينافقون ويخادعون، ونسي كم من البشر كانوا ضحايا الآلة من الأموات والمعاقين الذين يفوقون ضحايا الحروب. وركن إليه؛ لأنه يمنح التيسير الهائل في الخدمة، واختصار المسافة والوقت، ومعالجة المشكلة؛ ونسي أن في مقابل ذلك ثمنا يدفعه من صحته، ومن الأعراض الجسدية الناتجة عن الجلوس وعدم الحركة، أو عن الإدمان على المشاهدة، وتأثير ذلك على العين والأذن والأعصاب والظهر والمخ، وأشد من ذلك القلب. إضافة إلى التأثير النفسي بالعزلة عن الناس، وعدم انتظام البرنامج الحياتي، والانفتاح غير المنضبط على الفرص والآفاق والمتغيرات، وينسي كم يفقد من المشاعر والأحاسيس والمعاني الإنسانية مقابل الراحة والاسترخاء. وركن إليها بدافع الإغراء بالمزيد من المكاسب المادية والشخصية، ونسي أن القليل يكفي والكثير يلهي ويطغي: يود الفتى طول السلامة والغنى .... فكيف ترى طول السلامة يفعل لقد ركن إلى الآلة لأنها لغة العصر وأسلوب حياته ولذا فليس من الحكمة أن يمارس الفرد أو الأسرة قطيعة مع الآلة التي هي إحدى تجليات المنح الإلهية في تسخير الكون، وتسليط الإنسان عليها. المشكلة إذن في سوء الاستخدام، في الإسراف في ترسيم الآلة في حياتنا وتصرفاتها والاعتماد عليها، وفي ضعف روح الممانعة والوعي بخطورة تسليم النفس لها، وفي تجاهل المعنى الإنساني للحياة والعلاقة مع الآخرين. بدلا عن تأليل الإنسان وصبغه بالمادية القاتلة، وإخضاع تفكيره وأشواقه وتطلعاته ومشاعره لثقلة الحديد، وصرير المكنة، ومنطق الحساب؛ يمكن التفكير في أنسنة الآلة، لتكون رافدا أخلاقيا جديدا لتعزيز العلاقة داخل الأسرة، والحي، والمدينة، بل والأرض كلها، ومثل هذا لا يجوز أن نعارضه بأنه فكرة مبهمة، فالمبهم يحلل ويفصل، ولا بأنه المستحيل، فما أفلح الإنسان في صنع الآلة إلا بعد ما نزع فكرة المستحيل عن كثير من الخيالات. إنه المجال الخصب الضخم الذي يتوافق مع قيمنا وعقيدتنا وإنجازنا التاريخي، ويحقق لنا الحضور الإنساني المتميز، ويجعلنا نخوض غمار التجربة والمحاولة والشراكة، بدلا من الوقوف على الضفاف، أو الاكتفاء بالمشاهدة، أو مجرد الاستخدام. دعونا نتدارس كيف يمكن توظيف المشاهدة أو اللعب أو الإنترنت أو التلفاز للتواصل بيننا، ولتنمية روح الفريق داخل الأسرة، وتعزيز الروابط بين الأصدقاء، وتبادل المعرفة والود والمحبة بين شركاء التخصص، وإعادة العلاقات الباردة بين زملاء الأمس إلى دفئها وحيويتها، وتسهيل تلقّي الخبرة والتجربة بين جيل الحاضر وجيل المستقبل، وبين جيل الأمس وجيل اليوم، وبين المختلفين في جنسهم أو لونهم أو ثقافتهم أو اهتمامهم. ربما تسللت الأم إلى بنتها عبر الإنترنت من حيث لا تدري؛ فوجدت روحا أخرى لم تكن تتوقعها، واستطاعت أن تعبر عن حبها وشوقها وحرصها بما لم تستطعه مكاشفة ومواجهة، وربما تمكن الأب من مخاطبة ولده برسالة جوال جميلة لم تسعفه ملكته اللسانية من البوح بها، وهي أني أقدم في النهاية بطاقة حب لمن مر هنا، والسلام. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة