مع إشراقة صباح يوم غد ستخلي القوات المسلحة ثماني قرى حدودية جنوبية من بينها قرية «أم القروش» في منطقة جازان وهي القرية التي سيصعب على عائشة علي حدادي مغادرتها نظرا لكونها عاشت مع أغنامها الخمس في مراعيها لمدة تقارب 95 عاما. إنها لحظة صعبة بلا شك لسيدة أفنت حياتها في مرافقة حقول الذرة من الشروق حتى المغيب وفي فصول الزرع والحصاد. عندما علمت عائشة أنها مغادرة لا محالة قالت بصوت امرأة تسعينية وقد غلبه التهدج «ثوبي ساتر عورتي وبيتي ساتر الكل كله» لكن فردا من القوات المسلحة وضع يده على كتفها وقال «في مخيم الإيواء في أحد المسارحة ستكونين في مأمن». تتحرك عينا عائشة من خلف نظارتها الطبية البالية باتجاه المكان تتأمل وكأنها تتفقد كل ما ستتركه لعربات البرادلي ثم تبكي وتقول «في هذه القرية رحل رفيق العمر ومن هذا البيت الريفي المتواضع لحق ابني بركب العمل الحكومي وبقيت وحيدة إلا من نسوة يجاورنني منذ عقود». وقفت سيدة أم القروش التسعينية متكئة على تسعين عاما ثم بحثت عن حجر مغروس في الحقل وجلست بعد أن أنهكها التفكير في الرحيل «هذا الحجر نطلق عليه اسم القعادة في قريتنا هذه .. لطالما جلست هنا ساعات أرقب أغنامي وأتذكر رفيق العمر الراحل». اعتادت عائشة علي حدادي النوم باكرا والاستيقاظ كذلك وفق برنامج زمني سارت عليه سنوات طوالا يبدأ من الفجر في الحقل وإطعام الأغنام وينتهي بالتمدد مع مغيب الشمس فوق سرير خشبي موضوع في مقدمة البيت الريفي «هنا يستطيع سكان القرية تفقدي وهنا أشعر في المساء بالهواء العليل الذي سأفتقد نقاءه في مخيم المدينة». بعد أن أعياها الحديث والتعب لهجت بصوت إيماني واضح «اللهم اخز من تسبب في إبعادي عن أم القروش وحقل الذرة والسرير الخشبي وانصر من ربت بيده على كتفي وأخذني إلى حيث الأمان».