شوارع منى عامرة بألوان من الحجاج. ذكورا وإناثا من ضيوف الرحمن ينتشرون على أرض المشعر المقدس كخيوط بيضاء وسوداء تنساب من الجبال والجسور إلى الأودية والخيام. الكل يزحف ببطء وينتشر كخيوط الفجر ليملأ المكان. على طرفي الطرق الموصلة إلى جسر الجمرات تتجاور بائعات وبائعون بكل ما خف ورخص من البضائع. أمام إحداهن يحاول حاج أن يرفع صوته بلكنة غريبة. يفكك الكلمات ويبدل حروفها ويربطها ويتحدث بكل لغة يعرفها ويفشل. يسأل بائعة الهدايا عن سعر مسبحة سوداء طويلة مصنوعة من الخشب، وتعجز هي عن فهمه. ملامح وجهه تنبئ أنه أوروبي. أخيرا تفهمه البائعة الأفريقيه سميحة بمساعدة فاعل خير فترفع أصابعها العشرة السمراء وتفرقها أمام عينيه، فسعرها عشرة ريالات. تقول سميحة: لغيره أبيعها بخمسة ريالات لأني أعرف نوع هؤلاء الحجاج، هم يشترون أي شيء بأي مبلغ. دكان سميحة ليس له سقف. مربع صغير على الأرض به صناديق من خشب. بقايا قمامة بجاورها تفوح رائحة وجبة أرز. تبيع هذه الأفريقيه السمراء بضاعة يصعب فك طلاسمها ومكنونها. تبيع هيلا في علب حليب مجفف، وقرنفلا في علب مجوهرات قديمة، وشيئا لونه أبيض يشبه الزنجبيل المطحون في قارورة عصير برتقال، وأخرى لها راوئح غريبة تسميها علاجا شعبيا. وسميحة ببسطتها الصغيرة لقمة صائغة لمراقبي وزارة التجارة الذين قالوا قبل يومين بعد حملة تفتيشية نفذوها على بسطات تتمدد على أرصفة منى أنهم «صادروا وأتلفوا أكثر من 10 آلاف سلعه اشتملت على وحدات غذائية وغير غذائية». منى محاطة بحزام ذهبي. تشع نور الذهب إذا غربت شمسها. مربعات خيامها والأسلفت الأسود الذي يقسمها إلى مربعات يجعلها كرقعة شطرنج مساحتها650 هكتارا، ولكن هنا تختلف المعادلة ففوق كل مربع يقف ألف جندي، وألف طبيب وممرض وفني وداعية ومراقب. رقعة تتركز عليها عدسات مئات الكاميرات الإليكترونية، منها 509 فقط على منشأة الجمرات نصبتها قوات أمن الحج وتتربط بمركز تحكم وعمليات رئيسة، تراقب بها حركات وخطوات كل حاج. صوت القرآن والابتهال والدعوات تسمع في الشوارع والخيام وبينها. صراخ «ونانات» الإسعاف تسكت جدالا صاخبا لجالسين على جانب الطريق. كانت سيارة تابعة لوزارة الصحة تقطع الطريق كرصاصة. لا أحد يعرف جنس أوعمر أو حتى شكل من تحمله إلى سرير أبيض في مستشفى قريب. وزارة الصحة جهزت مشعر منى بمستشفيات ودعمتها بعشرات الكوادر الصحية وافتتحت قبل أيام مستشفى منى الجديد، فيه 160 سريرا عليها 200 طبيب وممرض، فيما 1700 سرير ومعها 100 مركز صحي جاهزة في كل مشاعر مكة استعدادا لأي طارئ. مسؤولو الوزارة يخافون تفشي فايروس انفلونزا الخنازير في الخيام المغلقة. الحجاج هنا يرتدون كمامات بيضاء. الانفلونزا التي لم يصل قتلاها من الحجاج إلى سقف العشرة حتى اللحظة تصيب القلوب بالهلع والخوف، ولكن عبد الله السالمي المقبل من الرياض لا يخاف عدواها كثيرا، هو لم يقرأ صحف أمس، وتحديدا تصريحات وزير الصحة وهو يفصح عن 67 حالة إصابة بالفايروس. عبد الله لم يأخذ لقاحا، ولا يلبس كمامات وقاية ولكنه لا يعاني من أمراض مزمنة. يقول «توكلت على الله ..أنا هنا لأناجيه وأغسل قلبي وجسدي بالدعاء، العرق الذي تصبب هنا أتلذذ طعمه تقربا من ربي، عسى أن يبعدني عن هذا الداء»، ويستدرك «لكن صدقني أنا مقصر في الأخذ بالأسباب..وستتحفظ على قناعاتي لو أخبرتك بها».