ثقيلة هي (إلى اللقاء) و(وداعا) وكل ألفاظ الوداع والفراق، فالموت مر وكل ما ينزع الإنسان من إنسان مر. وكم هي أليمة لحظات وفاة من نحب والفراق الأخير، إنها مشاعر رهيبة لا يستطيع أن يصفها إلا من عايشها. إن الدموع غزيرة تنهمر من المآقي لشدة ما بها من هول المصيبة، وإن دموع العالم لن تكفي لتعوضني قهر الفقد وأية دموع تستطيع أن تغسل ملوحة ومرارة الفراق، فالخطب أفدح وأمر من أن يكتب عنه أو يخطب له. ولكن أبتاه قد أجد بعض العزاء في الكتابة فالكلمات وحدها قادرة على اختراق جدران حزني عليك، وسأرثيك يا أبي بكلمات من دم. ولكن من أعزي ومن أواسي ومن أنعى؟ إذا كنت تنتمي إلى كل بيت وكل عائلة وإلى كل شخص من أفراد قبيلتك، فكنت الأب والأخ والصديق والرفيق لكل صغير وكبير ميسور ومعسور، فكنت المعزي والمواسي. فإذا قلت تألمنا لفقدك يا أبتاه فألمنا عميق، وإن قلت خسرنا فالخسارة فادحة، ولكن هذا قضاء الله ولا حيلة لنا إلا الصبر والاحتساب والجلد كما علمتنا كل ما هو جميل ومفيد، وكل معاني حب الخير والبساطة، وكنت تعزز أواصر القربى والعلاقات العائلية، فكنت أبا للجميع حقا وكنت تعلمنا هدوء الأجداد، وتعلمنا حبهم وحب هذا الوطن وحب الأرض وحب الناس وحب الآخر وكل أنواع المحبة، كنا نرى في صفحة وجهك كل صور التسامح الإنساني، تعلمنا منك الرجولة وأن الرجولة ليست في الأقوال بل في الأفعال وهذا شأن الكبار. أبي الحبيب.. إن حزن عليك البعض حزنا عميقا فإن رحيلك أبدلني بصحبتك وأنسك حزنا سرمديا لن ينفك عن رفقتي أبدا أو تنزع روحي. ابنك اليوم لا عز ولا فرح ولا رفيق من الأحزان يؤويه قعيد هم عن العلياء همته في ذرف دمع عن الأبصار يخفيه تركت قلبي من دون تسلية ولا عهود على الآمال تحييه فاليوم صار وحيدا جله كسر من الهموم ودم العين يرويه إن كلماتي عاجزة وحروفي قاصرة عن أن تصور مشاعري وأحاسيسي بعد رحيلك، فكم فتحت لي صدرك تحدثني من داخلك عن أمنية تود تحقيقها أو شيء يؤرقك، وكنت تغمرني بحب جارف وتخصني بأشياء لا يفعلها إلا الصديق مع صديقه فكنت أجد فيك الأب والأخ والصديق، فكنت تستشيرني في معظم الأمور لا لشيء إلا لتعلمني كيف أتخذ القرار وكيف أنظر للأمور بحكمة وتمرس. كنت أرى يا والدي الدنيا بعينيك.. ومن أين لي يا أبي بعدك بدعوات أغسل بها ظلمة روحي؟ ومن أين لأهل قبيلتك بوجه بشوش يوزع عليهم خبز المحبة وعناقيد الحب. أبي الغالي.. إن رحلة علاجك ومرافقتي لك فيها قد جعلتني أحظى بشرف القرب منك في أيامك الأخيرة، ورأيت كيف تواجه الألم بصبر وثبات، وكيف تحتسب الأجر عند الله، ولكنها جعلتني أواجه أقسى شيء في حياتي وهي لحظات وداعك، لقد كان أقسى ما فيها أنني عاجز عن أن أخفف عنك أو أفعل من أجلك شيئا، لقد شعرت باليتم برغم سنوات عمري وبأني بلا ركن في هذه الدنيا، لقد كان حبي لك يا أبي عظيما وكنت أشعر بأنك تحبني أكثر من أي شيء آخر. عند تذكري للأيام الأولى لفراقك أحمد الله الذي أعطاني من الصبر ما أتحمل به هذه الأوقات المؤلمة الرهيبة. أبي الحبيب.. لقد علمتنا أن الشيء يؤخذ منه فينقص، ومن الثمر فيقل، ومن الماء فيتضاءل، ولكن هناك شيء واحد نأخذ منه فيزداد وهو كل مال كان في وجه الخير للفقراء وذوي الأرحام والمحتاجين، كما علمتنا الرحمة بالصغير وتوقير الكبير والبشاشة واللطف مع الأطفال فكنت مثالا للرحمة في أوسع حللها. نم يا أبي قرير العين فالكل يشهد لك بالدين والأخلاق ولن يجتمع الناس على ضلالة، وفراقك أحزن كل من عرفك أو تعامل معك، وقضاء الله خير وليس للبشر مهما طال العمر من الموت مفر، ولا يبقى بعد الموت إلا السيرة العطرة التي وضعت جذورها في أعماق قلوبنا، وليس أمامنا إلا أن نصبر أنفسنا بقول ربنا (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا لفراقك يا أبتاه لمحزونون. غفر الله لك يا أبي وطيب ثراك وجعل قبرك روضة من رياض الجنة، ودار الخلد مثواك بما قدمت من معروف. والحمد لله على قضائه وقدره.