نحن الجيل الذي لم يسمع خلال عقدين من الزمان، بمفردة السلاح والجيش والحرب والدك والاحتلال، «صحونا» يوما، لتطالعنا النشرة: «عدوان على جزء من أراضي السعودية». ومضى الأمر خبراً كأي خبر تحترف وكالات الأنباء في تهويله وترويجه وترويعه. العدوان الذي عنوه، كان محض كذبة. إذ المتسللون والمتسولون لا يصنعون جيشا، ولا مجيئهم يمكن أن يكون احتلالا. وتلطيخ العصابات لجزء من تراب الوطن، وجثومهم عليه قليلا من الدهر لا يعني احتلالا إلا في رؤوس المغرضين والمسوقين لمشاريع التهويل والإرجاف. احتلال المكان، يغيره الزمان والفعل اللحظي. بينما المشكل والآثم والخطير: احتلال الوجدان. وهذا ما لم يحصل، ولن يحصل في قضية «التشغيب» التي تحدث في جنوب الوطن. وما ليس يخطر ببال المتسللين حتى. لندرك أن ثمة وسائل إعلامية، أشد خطراً، وأنكى تشغيبا على المجتمع من رصاص التخريب، وبنادق الارتزاق التي تقنص الخيبة في تخوم الرماد و«الدخان» ثمة. وسائل إعلام، طنطنت وتطنطن بأخبار تبدو كصورة الفرح بمصاب أهله، يولول بموال يطرب السامعين في سرادق العزاء، كي يتنبهوا لموهبة النواح المدفونة هذه .. حتى دفن أهله أخيراً، فانبعثت. ومن منحى آخر، يتبدى مشروع «للطم» والردح والتصريح والتجريح في صورة أكثر عمقا/حمقا. حيث تراءى لبعض الكتبة، أن يقيم درسا في الهواء الطلق، في باب المذهبية، وأصنافها، وهوياتها، وهواياتها, ويعلن اكتشافاته الكبرى في باب التفرقة بين معتقد ومعتقد، وكأن السوء حين يدق جدار الوطن بحاجة لإثبات العقيدة حتى يصبح سوءا. والقضية ليست في التفرقة العقدية، قدر ما هي في إشكال الارتجال اللحظي، ل «مثقفين» سعوا محملين بذخائر الرسائل البريدية العمومية المبتادلة، ساعين إلى كشوفاتهم في باب العقيدة وما جاورها، وإن آخر عهد أحدهم بالعقيدة، يوم أنهى منهج التوحيد للصف الثالث الثانوي – إن أكملها. ثمة في اليمن، قبل أن نشير لخارجه، فتنة كبرى، تحوم بداخله، وتهوم بجواره، ولذا ففي اللحظة التي يحتفل ويحفل فيها العالم بسقوط أحد جدران انفصالاته الكبرى، يسعى آخرون لبناء جدران كافية لانفصالات أخرى أكثر تجذرا، وأسمق طولا وأبعد مدى. عشرون عاما تفصلنا عن سقوط جدار برلين، وهو ليس «سقوطا» بالمناسبة. بل السقوط إقامة الجدران، وتنشئة السدود، ونسف الجسور، وفتح أبواب العقيدة والنار والقبلية والأحقاد في وطن مطمئن آمن، لم يدمن مصطلحات الحرب، ولم يرضع خبال الفتنة، ولا اعتاد نشرات أخبار تستفتح سوقها الصباحي بخبر عن مقتل أحد جنوده. التنويه على كون الحدود ليست ترابا فحسب، يجب أن يكون شغل باحثي طمأنينة هذه المجتمعات، وقادة الرأي فيها. وبكون التراب ترابا لا قيمة له، إن لم تكن ثمة شعوب تتجذر هويتها في أعمق أعماقه، وتتماسك بتماسك بنيانه، تحارب العدو الغازي بطمأنينتها، أكثر مما تفعل ببطشها، وبقوة صمتها، أكثر مما تصنع بجعجعتها. الثقافة حارس وطن أكيد، وبعد ذاك، كل يمكن أن يكون جنديا يحمل روحه، لا سلاحه فحسب، في أي معركة يكون الوطن طرفا فيها. وللذين يحسبون كل صيحة عليهم، هذا الوطن أكبر من تشغيب عصابة، وأكثر من شبك مزرعة، وأسمق من نشرة أخبار، وأكثر نضجا من افتعال الفتنة على طبق مطعم سريع الوجبات، كثير الدهون، ويملك خدمة التوصيل حتى خارج الحدود. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 252 مسافة ثم الرسالة