رجال في صورة فتيان.. في مقتبل العمر وقوة المستقبل وعتاده.. يتسمون بعقول تستوعب حسا بالمسؤولية كرجال، وقدرة تحمل عالية تجعلهم يتجاوزون العقبات أيا كانت ومهما كانت .. لذا أدركوا وهم في السن المبكرة أن التقدم نحو المستقبل والعبور إلى حياة أفضل لن يتحقق إلا بالخطى الثابتة نحو المدرسة لتحصيل العلم.. سواء أكانت المدرسة قريبة كانت أو بعيدة، ليس هذا هو المهم، أنهم سيتوجهون نحوها حتى ولو ساروا مسافات على الأقدام ذهابا وإيابا. بعضهم يبكر من الصباح ويهم بمغادرة البيت مع نداء المؤذن للفجر يؤدي الصلاة، ثم يبدأ خطاه لكي يصل في الموعد المحدد إلى المدرسة وحضور طابور الصباح، بدون تأخر قط لأي سبب كان. مشقة التفوق سعد سالم المرحبي طالب المرحلة الثانوية في جدة لم يستطع أن يختار المدرسة، وإنما الظروف وحدها هي التي اختارت له مدرسة بعيدة.. فيقول: أسكن في بحرة ومدرستي في كيلو 14 (طريق مكةجدة القديم) والسبب وراء اختيارها أن والدي كان يعمل في موقع قريب جدا من المدرسة، في وقت نملك فيه سيارة واحدة يقودها والدي، لذا كان يأخذني معه إلى المدرسة، بالرغم من وجود أخرى بالقرب من منزلنا، لكن والدي لديه قناعة طبقها حتى مع أخي، بأنه لا يسمح لنا بالدراسة في الحي حيث أولاد الحارة جميعهم هناك، لذلك يخشى علينا من اللعب مع الأقران من الجيران على حساب الدراسة. ولهذه القناعة سجلني في المدرسة البعيدة، وأنا سعيد بذلك، ومقتنع برؤية أبي وصحبته يوميا ذهابا وإيابا، والتي لولاها ربما لم أكن متفوقا.. لكن المشكلة بدأت بعد أن انتقل والدي إلى العمل في الطائف، حيث وقعت في حرج، خصوصا أنني في المرحلة الثانوية، ومع ذلك اقترح والدي أن أنتقل إلى المدرسة القريبة لعدم وجود سيارة، إلا أنني رفضت، حيث تعودت على المعلمين في مدرستي التي بدأت فيها، وخشيت أن يؤثر الانتقال على مستوى التحصيل، خصوصا أنني حريص عليه بشدة، ولهذا طلبت من الوالد أني سوف «أتصرف» وسأظل في هذه المدرسة. ويستكمل المرحبي: أخرج من البيت حاملا كتبي مع الساعة الرابعة والربع صباحا وأقف على الطريق أنتظر سيارة تحمل الركاب، حيث أصعد بخمسة ريالات حتى كيلو 14، ومن هناك أركب أخرى أو أسير على أقدامي نحو المدرسة، وأحيانا يتعاطف صاحب سيارة كوني طالبا ويوصلني حتى باب المدرسة مجانا، وهذا ما يحدث مع الكثير من الطلاب.. المهم أصل دائما قبل الطابور وأحيانا مع بدايته ولا أحمل هما، إلا الزحمة الشديدة التي يشهدها الطريق السريع، وكل ما أتمناه تجاوز هذه السنة مثلما خططت بمعدل دراسي وتراكمي مرتفع لرغبتي الشديدة في التخصص كطبيب أطفال. أصغر طالب التغلبي يضطر يوميا ومنذ أن كان في الصف الأول الابتدائي إلى الاستيقاظ قبل الفجر، حيث يؤدي الصلاة في مسجد على طريق مكةجدة السريع، ثم يذهب إلى مدرسته، ويبدو أن إصرار والده وراء بقاء في مدرسته رغم المشقة، إلا أن مستوى الدرسة هو الدافع وراء ذلك، حيث يستطيع طفل الثالثة الإبتدائي القراءة والكتابة وبصورة رائعة جدا، كما لديه قدرة واضحة على حسن ترتيب الأفكار خلال حديثه مع الآخرين. تهون المتاعب عبدالكريم الحارثي (طالب في المتوسطة) يقول: لا توجد مشكلة مع المسافة الطويلة بين المنزل والمدرسة، لقد تعودنا منذ الابتدائية، هذه هي طريقنا نحو المستقبل، ويستطرد: أحيانا تتوفر سيارة لنقلنا لكن في كثير من الأحيان لا تتوفر ومع ذلك لا أتذمر، فلا فرق بين الذهاب إلى المرسة والعودة منها على الأقدام أو بالسيارة، لكن المهم هو أنني أريد تحيقق أحلامي وأحلام أسرتي. المشي لم يؤخر الطالب يحيى محمد الحكمي يشاطر زميله الحارثي الأفكار والتوجهات ويقول: بيتنا بعيد عن المدرسة ومع ذلك لا أذكر أنني تعبت أو تضايقت لخروجي من المنزل مبكرا حتى لا أتأخر عن موعد الدراسة. ويقول حاسن حسين أنا حريص على أن أذهب إلى المدرسة في الموعد المحدد، بل غالبا ما أكون هناك قبل السابعة إلا ربعا، رغم انني اسكن في مكة حيث يبدأ الطابور عند السابعة تماما، ثم أنتظم مع زملائي ونتوجه بعد الطابور للفصل حيث تبدأ الحصة الأولى، ويضيف حاسن «لم يحدث أن كنت ضمن طابور المتأخرين أبدا لأني أستيقظ مع الفجر ولا تأتي السادسة، إلا وأنا في المدرسة، كما أنني حريص على عدم السهر أثناء الدراسة حيث أخلد إلى النوم عند التاسعة والنصف أو العاشرة مساء. لا طموح بلا تعب يتدخل الطالب خالد الزهراني قائلا: برنامجي لا يختلف عن زميلي، فأنا بالفعل في أيام الدراسة لا أسهر، وهذا أمر مهم فمن سهر الليل لا يتمكن من الحضور المبكر للمدرسة، وخصوصا إذا كان يأتي سيرا على الأقدام، بل لا يستطيع أن يبقى مستيقظا داخل الفصل، ويستطرد: في كثير من الأحيان أتوجه لمدرستي مشيا والمسافة ليست بالطويلة لكنها ليست قصيرة، وإنما هناك مسافة تستوجب أن أخرج مبكرا، لأن الطابور الصباحي يبدأ عند السابعة، ومثلي كزملائي اللذين يبحثون عن التميز والتفوق، فإن هذا الحلم أو الطموح لا يأتي إلا إذا استشعر الطالب عظم المسؤولية تجاه النظام أو الواجبات المدرسية. ويضيف: «لعل هذا ما جعلني لا أفكر مطلقا وعلى مدى سنوات الدراسة في التغيب لأي سبب وهذا يرجع إلى تربية أسرتي التي عودتني على هذا المنهج، لذلك الأمر لا يختلف إذا وجدت سيارة تنقلني إلى المدرسة أو لم أجد، المهم أن أصل في الموعد المناسب». لا نصعد مع الغرباء ويرصد الأخوان الحسن والحسين محمد ناصر اللذان يدرسان في مدرسة واحدة العقبات التي يعايشانها في طريقهما باكرا نحو الدراسة، حيث قال الحسن: بيتنا لا يقع قريبا من المدرسة والطريق غالبا في وقت الصباح الباكر يكون شبه خال، فيما عدا بعض السيارات التي تعبر الطريق وكثيرا ما يتوقف أحدهم يعرض توصيلنا إلى المدرسة، إلا أننا نرفض من باب الحذر كما تعلمنا ولا أذكر إلا أن رجلا كبيرا في السن في يوم ما نقلنا بعد الانصراف من المدرسة ورفض أن يأخذ نقودا، وقال حينها «هذا المشوار من أجل المدرسة ودراستكم»، هذا الموقف الوحيد الذي دفعتنا فيه الثقة للتجاوب مع الرجل الطيب، فيما عدا ذلك لا يمكن أن نفكر في الصعود مع أي إنسان لا نعرفه. والحسين الأخ الأصغر يقاطع شقيقه قائلا: تعودنا التوجه للمدرسة مشيا ولأن بيتنا يقع بعيدا، فإننا نسير مباشرة بعد الصلاة والوقت الآن يساعدنا لكن في الأشهر المقبلة عندما يتأخر موعد صلاة الفجر، فالوقت حينها لا يسعفنا في الصلاة في المسجد ونضطر لشق طريقنا والصلاة مازالت قائمة، فموعد الطابور الصباحي لا يتغير. ويستطرد: تعترضنا في بعض الأوقات كلاب تخرج من بعض الشوارع الفرعية، إلا أننا نتجنبهم بأن نسلك الطريق العام لوادي (عشير) حتى نصل إلى المدرسة. زميلهما الذي يرافقهما وجارهما قاسم علي المنقري تدخل قائلا: مشوارنا للمدرسة يستغرق نصف ساعة ربما تزيد عشر دقائق، ونظل ننتظر بعضا في الصباح وحتى عند الانصراف لأننا نحب أن نسير الثلاثة معا.