يسألني كل من يزورني في البيت عن هذه المكتبة المملوءة بالكتب؟ هل قرأتها كلها؟ ويفاجأ حينما أخبره بأنني لم أقرأ حتى ربعها. وليس علي أن أقرأ كل كتاب من الغلاف إلى الغلاف، فبعض الكتب لا تحتاج منها إلا إلى عدة ورقات قد لا تتجاوز أصابع اليد. بل إنني اقتنيت موسوعة كاملة من أجل مادة واحدة. وسؤال الزائر ليس مشكلة بحد ذاته، بل هو سؤال طبيعي وبديهي. وتبدأ المشكلة حينما يسبح بعيدا في تصوراته، ويأخذ في طرح أسئلة من النوع المزعج، كأن يسأل مثلا عن فائدة الكتب، وخصوصا إذا أخبرته أن التخصص الذي أقرؤه وأقتني كتبه بكل شغف هو تخصص نظري ولا علاقة له بأي شيء عملي، كتخصص الفلسفة والمنطق. كتبت كثيرا، وهنا، عن فائدة الفلسفة وعن جدوى الفكر النظري والفنون والمعارف غير التقنية.. ولست بحاجة إلى تكرار ما قلت. ويمكن الرجوع إليها في مقالاتي السابقة. وما أود الإفاضة فيه هو تلك الجملة غير المفيدة التي يبادرني بها كل زائر لا علاقة له بالكتب والقراءة (يا أخي أنت فاضي وما عندك شغل !!). طبعا نفهم من هذا الكلام أن حضرة الزائر الكريم مشغول جدا، ولا وقت لديه لكي يضيعه في قراءة كتب لا تسمن ولا تغني من جوع. ولكن فيم هو مشغول؟! سأتحدث بالطبع عن أصدقائي وزواري الكرام. فالذي أعرفه عنهم أنهم موظفون، وليس لهم أي عمل آخر لا في التجارة ولا في الزراعة ولا في الصناعة ولا في أي مجال آخر يجعلنا نقبل أعذراه إذا تهرب من القراءة بحجة انشغاله المستمر. فما الذي يشغله حقا، إذا عرفنا أن هذا هو حاله؟ نعم. إنه يخرج من العمل ظهرا وبالمناسبة فأغلب زواري وأصدقائي مدرسون ينام، ثم يصحو العصر. وأما في الفترة الزمنية التي تمتد من وقت العصر إلى الساعة الواحدة ليلا؛ وقت النوم، وهي فترة طويلة يحلم بها كل موظف آخر، ويحسد المعلمين عليها. أقول إن هذه الفترة الطويلة تضيع هباء منثورا، ولكن كثيرا من زواري يعتبرها عملا. سأترككم الآن لتستمعوا إلى البرنامج اليومي لأحد هؤلاء الأصحاب (المشغولين جدا في طلب الرزق): يستفيق العصر، لا يكلم أحدا «نفسه في خشمه»، يتناول وجبة الغداء بعد أن يعيد تسخينها في الميكرويف، يحتسي كوبا أو كوبين من الشاي مع لفافتين من التبغ لكي يستوي الرأس ويصحو جيدا. يتلاسن لمدة ربع ساعة مع زوجته لسبب ما، وربما لغير سبب !!، ثم يمسك بسماعة الهاتف، فالجوال مفصول على ما يبدو، يتلفن على «الشلة»، يذهبون للمقهى.. وهناك يطلبون المعسل والشاي، ويشاهدون التلفاز الذي يعرض لهم مباراة لكرة القدم في الدوري الإنجليزي أو الأسباني، يتابعون المباراة باهتمام شديد.. دخان الشيشة يزداد كثافة مع كل هجمة خطرة. وبعد حماس وتأهب وانتباه لتلك الهجمة المرتدة عفا الله عن الجميع حدث ما لم يكن في الحسبان؛ أغلقت إدارة المقهى أجهزة التلفاز، والمباراة لم تنته بعد. لقد حان وقت الصلاة.. ينهال «الشلة» بالشتائم والسباب على الإدارة والعمال المساكين. إذا بقي من المباراة وقت طويل تجدهم يقفزون بسرعة إلى بيوتهم لإكمال المشاهدة، وفي بعض الأحيان يتصلون بشلة أخرى في إحدى الاستراحات المجاورة للمقهى. يبدأ برنامج جديد في هذا المكان المستأجر. تنقضي ساعات وساعات وهم يشاهدون ويثرثرون ويلعبون ويدخنون ويشربون (الشاي طبعا) و... وأخيرا يذهب كل واحد منهم لينام في بيته قرير العين، مرتاح البال لهذه الأعمال العظيمة التي أنجزها في يومه هذا. انتهت القصة، أو بالأحرى لم تنته «فالعمر يخلص و (الشغل) عمره ما يخلص»!! يجب أن أقول إنني لا أرفض الترف واللهو واللعب والاستجمام و... إلخ. ولكن حينما يصبح هذا اللهو عملا، فتأكد أن العمل الحقيقي سيصبح لهوا !. وهذا ما يحدث لدينا بكل أسف. فما الذي يفعله صاحبنا الذي ذكرنا برنامجه اليومي قبل قليل: يستفيق متأخرا عن الدوام (المدرسة !) ويلبس أحلى الثياب ويتعطر بأزكى العطور.. وعلى غفلة من المدير يوقع في دفتر الحضور الذي ازدحم بالتوقيعات المتأخرة !، يفوت الطابور الصباحي... يرن جرس الحصة الأولى معلنا البدء، ينام صاحبنا... يناااام طويلا، ولا يصحو إلا على صراخ المدير الذي يطالبه بإعطاء الطلاب حقوقهم، وبدفتر التحضير، ونحوه من (الأعمال) التي يتقاضى راتبا من أجلها. ولكني... آه لقد نسيت يا أستاذ... كنت مشغولا جدا جدا بالأمس.!. صاحبي الظريف هذا جاءني قبل أيام، وسألني إذا كنت أريد الذهاب معهم إلى المقهى، نعم! نفس المقهى الذي يغلق التلفاز كثيرا. فأجبته بأنني أتمنى ذلك، فلم أرفه عن نفسي منذ زمن، ولكنني مشغول. قال: فيم أنت مشغول؟ قلت: يجب أن أنتهي من قراءة هذا الكتاب اليوم. فقال: وهل تسمي هذا شغلا بالله عليك؟ انهض! هيا بنا واترك هذه (الخرابيط) منك، وقم، فالشباب يسألون عنك كثيرا. قلت: ألا تسمع؟ لدي عمل. يجب عليك أن تنصرف الآن لكي أنتهي من عملي، ولعلنا نلتقي في الإجازة الأسبوعية (الويكند) إذا أحببت. قال: آسف، في الإجازة الأسبوعية عندي عمل. قلت: سبحان الله !! للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة