حينما سألته لم أكن أتوقع تلك الإجابة التي فاجأتني تماماً. طفل في الخامسة من عمره سألته عن نفسه ، وعن أبيه وأمه أيهما يحب أكثر من الآخر ، وعن حياته في المنزل من حيث مشاهدة برامج الأطفال المنوعة وماذا يجذبه منها .. وهي أسئلة معتادة نوجهها إلى الأطفال في مثل هذا السن ، وهي من أساليب تدريب الطفل على الحديث وتجميع الأفكار ، شريطة ألا تتجاوز هذه الحدود المعقولة المباحة ، فتصبح أسئلة عن أسرار الأسرة وأمورها الخاصة. سألت ذلك الطفل هذه الأسئلة ، وفاجأني بقوله في حديثه عن - أبيه وأمه- بعد أن استحلفني ألا أخبرهما بما قال: أنا بصراحة لا أحب أبي وأمي كثيراً ، قلت له: لماذا ؟، قال: لأنهما مشغولان عني كثيراً ، أما أبي فلا أكاد أراه إلا نادراً ، وأما أمي فإنها مشغولة بوظيفتها في البنك ، تستغرق الجزء الكبير من وقتها فيه ، وإذا جاءت إلى البيت لا أجد منها ذلك العطف الذي أجده من الخادمة ، وأكد لي أنه يحب الخادمة كثيراً ، وأنها أحسن من أمه وأكثر عناية به منها. كان كلاماً (بريئاً) خارجاً من أعماق طفولته البريئة الطاهرة ، وقد وفيت له بوعدي ، ولكنني طرحت الموضوع على والده بصورة غير مباشرة فوجدت عند الأب من الشجون حول هذا الموضوع أضعاف ما وجدته عند طفله البريء ، وعلمت من الأب أن زوجته أصرت على الوظيفة واستماتت في هذا الطريق - هرباً من الملل القاتل - على حد قولها ، وأكد لي أن وضعهم المادي لا يحتاج إلى راتبها أبداً ، فهم في بحبوحةٍ من العيش ، وذكر لي إحساسه بالذنب مع أولاده الثلاثة الذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة والسابعة ، وأنه عجز عن إيجاد حل لهذه المشكلة واستسلم لها ، ثم أخبرني عن الحرج الذي يلقاه من ابنه ذي الخمس سنوات - وهو الذي حاورته - فهو دائم العتاب لأبيه وأمه إذا رآهما ، وقال لي والدمع يترقرق في عينيه: لقد وجدت ابني هذا أكثر من مرة نائماً على الكرسي الذي يقع في مدخل المنزل وعنده الخادمة ، لأنه يريد مقابلتي قبل أن ينام ، وحينما أحمله يصحو من نومه وهو يقول: لماذا أنت تكرهنا ولا تحبنا ؟، ولماذا أمي تفعل ذلك ؟، ومازال هذا الابن يفعل ذلك حتى أصبح معتاداً عندي ، أما أمه فهي تتهمه بأنه يتدلل ويحب أن نلفت إليه النظر. ثم قال: لقد كانت وظيفتها شرخاً في الأسرة ، وانكساراً واضحاً في نفوس الأطفال ، ولكنها انضمت إلى مجموعة من صديقاتها اللاتي أقدمن على العمل الوظيفي ، وكون لهن جواً خاصاً بهن في هذا المجال وتركن أولادهن في مهب (الخادمات). هنا قلت لصاحبي: إن تفانيك المبالغ فيه في عملك التجاري هو السبب في تكوين هذا الجو العائلي المحزن ؛ لأن الشيء إذا جاوز حده انقلب إلى ضده ، ولابد لك إذا أردت أن تعالج هذه المشكلة من البدء بنفسك ، وإعادة ترتيب جدول عملك بصورة تمكنك من بث حنان الأبوة في منزلك بالعمل وليس بالقول ، وبالروح وليس بالمادة والمال ، وعند ذلك تستطيع أن تقنع زوجتك بأن عملها في المنزل مع أولادها أثمن وأعظم وأغلى من عملها خارج المنزل ، وما شكت من الملل إلا لأنها لا تقوم بدور الأم الحقيقية في منزلها ، جلوساً خاصاً مع أولادها ، وحواراً معهم ، ومشاركة لهم في اهتماماتهم ، وقراءة عليهم ، وإني لأعرف كثيراً من الأمهات تركن أعمالهن خارج المنزل حينما أنجبن الأطفال ، ولم يتراجعن في ذلك أبداً ووعدني أن ينفذ ما قلت له ، وأرجو أن يكون قد فعل. لماذا تتهافت النساء على العمل خارج منازلهن بهذه الصورة ؟ وإلى متى يظل هذه الشرخ الخطير في تكوين الأسرة المسلمة ؟ خاصة إذا لم تكن الأسرة بحاجة إلى المال ، وإنما هي الوجاهة أحياناً ، والرغبة في الخروج من إطار ميدان العمل الحقيقي للمرأة ؛ ألا وهو منزلها أحياناً أخرى ؟. ثم ، لماذا إذا حدث هذا وخرجت المرأة للعمل ترتكب إثم الإهمال الكبير لمنزلها وأولادها ؟ أسئلة تحتاج إلى ضمير حي للإجابة الشافية عنها. إشارة: سلني بربك عن آثار تربيةٍ=حديثة ، روحها في العلم جرداء