في ظهيرة رمضان وفي الوقت الذي يلزم الكثير بيوتهم، هناك من تحتم عليه لقمة العيش الخروج والعمل تحت ظروف لا يمكن وصفها إلا بالحارقة، منهم من يتعامل مع النار، ومنهم مع الإسفلت، وآخرون مع الأسيد والبخار. أجسادهم يبللها العرق وتغسلها رطوبة لزجة، وملابسهم يعصرها لهيب تلك الظهيرة والعطش. يعملون في صمت ويبتعدون عن مواطن الاحتكاك مع الآخرين خشية التوتر، يلتمسون صبرا ويحاولون التبسم حيال تلك الظروف الصعبة، إنها لقمة العيش، وهل لدينا من حل؟. هكذا ردد بعضهم، وهكذا يقول أصلا لسان حالهم فدعونا نعايشهم بهدوء. حرارة وأسفلت عمر محمود أشي (43 عاما) عامل مهمته قيادة مكينة السفلتة، حيث يواجه بخار الإسفلت الملتهب أمامه قال: ستة عشر عاما وهذه مهمتي، أنا من يتولى عملية (فرش) الإسفلت على الطريق الجديد بعد تعبيده، وكما ترى يتم وضع الإسفلت في هذه المكينة وهو حار يتصاعد منه البخار الخانق، والذي لا أملك أمامه سوى وضع اللثام على أنفي فقط، والمشكلة أن هذا العمل يكون صعبا هذه الأيام بسبب الصوم والحرارة الشديدة، ونحن نعمل من الصباح الباكر وتحديدا من السادسة إلى الثانية بعد الظهر. ويضيف أشي أعاني خلال عملي من العطش بلا شك، لكن كلما كثرت المشقة تضاعف الأجر بإذن الله تعالى، ونحن نتحمل لهذا السبب، إلا أنني وبعد الانتهاء من العمل أذهب مباشرة وأخذ (دشا) أخلد بعدها للنوم بعد أداء صلاة العصر، وهذا يخفف علي كثيرا، لكنني أعترف أنني أتضايق من كميات العرق والرطوبة التي تلصق الملابس في جسدي لكن ماذا أفعل غير الصبر. حطب و موقد غاز في حين يعتبر عبده علي مصدق (48 عاما) أن تعامله الطويل مع النار والعجين جعله معتادا على هذا العمل، حيث قال: تقريبا من السادسة صباحا يبدأ عملي من خلال تجهيز العجين والدقيق، ثم أبدأ بإشعال الفرن في المخبز والحرارة هنا لا تطاق، رغم أننا وفرنا مراوح شفط ومن فضل الله تعالى أننا منذ حوالي أربعة أعوام، أصبحنا نوقد النار بالغاز أما من قبل فقد كان المخبز بالكامل يستخدم الحطب وهذا يحدث مشكلة كبيرة، نظرا لكمية الدخان الذي كان يتصاعد، ولهذا كان العمل أشد صعوبة وأكثر جهدا من الآن. لكن سعيد محمد صالح -أبو وليد- (52 عاما) يعتبر (الجوكر) والرجل صاحب المهام المتعددة في مخبزه، حيث يقول: لي حوالي اثنين وعشرين عاما أعمل في هذا المخبز، في مهنة متوارثة من القديم جدا، أصبحت فيها الآن أعمل في أي موقع من المواقع وأقصد عندما تكون الحاجة ماسة لعمل الدقيق أو العجن، فإنني أتولى هذه المهمة وعندما يكون الموقف يتطلب الخباز فأنا أكون الخباز، وكذلك الحال بالنسبة لبقية الأدوار في المخبز، فمثلا اليوم أنا أتولى عمل (موزع) الخبز على المحلات والمطاعم، حيث يتم إعداد الخبز قبل صلاة الظهر، لكي أنطلق به بعد الصلاة مباشرة. مطفي السمك محمد نور علي (بائع إيدام السمك) الذي ينطلق عمله قبل صلاة الظهر بساعات حيث يقول: هذا النوع من الطبخ يسمى بالمطفي، وهو نوع من أنواع الطعام القديمة جدا، والذي يجهز بالسمك وتحديدا (الديراك)، لكن المميز في هذه الطبخة أنها تعد على الجمر فقط، وهنا تكمن المعاناة، فمنذ العاشرة تقريبا تبدأ عملية إعداد الجمر، وهذه المعضلة الوحيدة تقريبا، حيث إنها تستهلك وقتا طويلا، بعد الانتهاء من إعداد الجمر بالصورة المطلوبة حيث يتقد الجمر جيدا، أضع بعدها الإناء وبه البهارات ولوازم الطبخة ثم ترمى قطعة السمك بها، أفعل هذا ليس مع إناء واحد وإنما مع ثلاثة عشر إناء في الوقت نفسه جميعها تطبخ وتنضج في الوقت ذاته. يحيى أبو الجراح (30 عاما) الرجل الذي يستقطب معرفة الجميع ومحبتهم قال:ربما أكاد أجزم أن جميع سكان هذه المكان يعرفني جيدا، لأن علاقتي أصلا بهم جيدة ولأنني أعيش بينهم منذ فترة طويلة، مهنتي في هذه المغسلة وطدت هذه العلاقة، فمنذ ما يقارب العشرين عاما لم تقفل هذه المغسلة، يعرف الجميع دقة مواعيدي، ولهذا أنظم الوقت لكي يتناسب مع مواعيد تسليم هذه الملابس لأصحابها، أتعامل بصفة يومية مع المواد الحارقة هذه، وهي مواد التنظيف المعروفة، ولكن بكميات كبيرة. مواد كيماوية تركت بصماتها على يدي مثلما تلاحظ. والمسألة لا تتوقف عند هذا الحد، بل يمتد الموقف نحو البخار الساخن وهو الذي يأتي من آلة (كي) الملابس.