هي النار .. منهم من يتعامل معها في فترات متقطعة، ومنهم من يظل ملتصقا بها حتى المغيب لا يكترث بعضهم لتلك الأجواء الحارقة ويظل يعمل دونما كلل أو تذمر، فمن النار تأتي لقمة عيشهم، حتى وإن احترقوا بلهيبها، يمتنعون عن المكيفات والهواء البارد طالما التصقت أجسادهم بحرارة النار، لكنهم سرعان ما يهرعون إلى المكيفات والبحث عن البرودة حال انتهاء علاقتهم بذلك اللهيب الذي أكسب بعضهم الغضب، فيما اكتسب البعض الآخر الصبر والهدوء وروح الدعابة والمرح. المتعاملون مع النار حديث لا ينتهي، فدعونا نرى: التعامل مع الحرارة يعقوب يحيى الجعماني قال: أتعامل مع النار منذ سنوات طويلة ومهمتي إشعال النار في الفرن الخاص بالخبز سواء كان بالحطب أو بواسطة الغاز كما نفعل حاليا، لكن في كلا الحالتين أنا أتعامل مع الحرارة ويمكنك أن تلاحظ مقدار الماء الذي استهلكه للوقوف في هذه الأجواء، ولم ألحظ أي ضرر من تعاملي مع النار، فحالما أنتهي من عملي أنسى كل هذه الأجواء، وبالتأكيد أنا أستعمل المكيف في البيت وماذا تريدني أفعل حرارة في العمل وحرارة في البيت. الأمور أسهل أما جهانكير جمال الدين فقد أشار إلى أنه منذ ما يقارب ال 20 عاما وهو يقف خلف فرن التميز، ومن فضل الله مع كل تلك الخبرة الطويلة أصبح لديه مناعة تجاه العمل مع النار ويكاد يكون كل جسمه يشتعل من الحرارة في بداية العمل لكن مع مرور الوقت تصبح كل المسائل عادية، ويضيف مع استخدام الغاز صارت الأمور أسهل بكثير بدلا من استخدام الحطب، حيث كانت المعاناة حرارة ونار ودخان. نسيان التعب أما محمد على تباتبت الذي يتعامل مع النار لصنع الوجبات الغذائية فقد قال: هنا أكثر من موقد وجميعها ربما تعمل في وقت واحد، فهذه خاصة بالرز وهذه للإيدامات وتلك للشوي، ولا أذكر أنني شعرت بأي معاناة نتيجة عملي، ورغم تعبي لكنني أنساه حالما أغادر إلى بيتي، فهذه لقمة عيشي وتحتاج إلى صبر. لست عصبيا لكن جواد حسان برماوي (48 عاما)، والذي يعمل على تطويع الحديد بواسطة النار فقد قال: هنا أوقد الجمر حتى يشتعل ويصبح أحمر ولينا حتى أعمل بها دوائر خاصة بالأغطية وأخرى (مساحي) و(محش) خاص بالأدوات الزراعية، ويواصل قائلا: يطير كثير من الجمر ويستقر على جسمي ويمكنك مشاهدة بعض الندب هنا أو هناك ومع ذلك أنا رجل صبور وهادئ وأغضب بسرعة لأن وقوفي أمام النار 30 عاما أكسبني الصبر والهدوء والصحة، فكميات العرق الغزيرة التي تخرج من جسمي ما هي إلا سموم يفرزها الجسم، وربما تعودي على الحر جعلني أكره تشغيل المكيف في البيت حتى لا يؤثر على صحتي. أنبوبة غاز ويضيف فواز مبارك السحمي (81 عاما) قائلا: عملت في يوم ما في مخبز كان مشهورا في جدة، وكنت حينها أعمل منفردا بلا عمالة وأعتمد فيه على إشعال النار على الحطب ولهذا استمر العمل في هذا المكان قرابة 30 عاما تقريبا لاحظت أن للنار تأثيرا، خصوصا أن هناك من قال بأن لها تأثيرا على خصوبة الرجل وذلك كلام أرعبني في بداية الأمر لكن عندما تفهمت الوضع عرفت أن ذلك التأثير عندما يتعرض لها الإنسان مباشرة، فمن بركة الله لدي سبعة من الأبناء والبنات، وهم الآن متزوجون، وسبب تركي للعمل مع النار هو أن أحد أبنائي طلب مني بأن أتحول من إيقاد النار بالحطب إلى استعمال الغاز، وأمام إصراره وافقت وفي أول يوم قمت بإيقاد النار بواسطة أنبوبة الغاز، لم أحكم ربط اللي جيدا، وانتشرت رائحة الغاز في المخبز ولم أكن أدري أن تلك الرائحة تخص الغاز ولهذا اشتعل المكان فجأة وأطاح بي الاشتعال بعيدا عن مكاني وتعرضت لحرق في يدي وأسفل قدمي وسلمت، لكن آثار الحروق لا زالت باقية ومن يومها تخليت عن المخبز وقمت بتأجيره وابتعدت عن النار. رفضوا تزويجي ويروي مبارك فواز الصميلاني (61 عاما) حكايته مع أهل زوجته، إذ يقول: كنت أملك فرنا أستيقظ من الصباح الباكر ولغاية مغيب الشمس في العمل مع النار وكان الفرن بسيطا، والنار كانت قريبة جدا من يدي وجسمي فالمخابز قديما كانت جميعها من الطين والحجر، المهم أذكر عندما تقدمت للزواج من أم أولادي رفض أهلها القبول بي بحجة أنني ربما أكون عصبيا لأنني أتعامل مع النار، تركتهم مدة من الزمن لأنني كنت أعرف أنهم سوف يسألون جيدا عني، وأنا كنت معروفا بأنني صاحب روح مرحة ودعابة ولهذا تجاهلت رفضهم وبعد تسعة أيام جاء والدها وقال: نحن فهمنا خطأ فإن كان لك رغبة في ابنتنا فحياك الله، المشكلة أن كثيرا من الناس يتصور أن كل من يتعامل مع النار يتحول إلى شخص آخر عصبي، وهذا كلام غير صحيح والدليل هو أنا أمامك هل تلاحظ علي شيئا من ذلك، ربيت أولادي أحسن تربية منهم الطبيب، المعلم، والمهندس. جمر أحمر ويرفض محمد صالح الزبيدي (48 عاما) القول بأنه يكره المكيف قائلا: يا أخي أنا بلا مكيف لا أعيش، أعمل ما يقارب الثماني ساعات أمام موقد النار في هذا المطبخ وأعمل في أفران المندي والحنيذ وغيرها من أنواع الطبخ، جميعها تتطلب إشعال النار من الصباح وتجهيز فرن المندي بكميات كبيرة من الحطب والذي أنتظره حتى يتحول إلى جمر أحمر، ثم أضع اللحم والرز داخله ثم بعد ذلك أتعامل مع النار مباشرة، وهذا كله يجعلني لا أفارق الماء حتى أعوض ما أفقده من كميات سائلة، لكن عندما ينتهي يومي أذهب للبيت وأقوم بفتح المكيف وأنام كأي إنسان عادي، وأستخدم أيضا مكيف السيارة، ولا أتذكر أنني قد تحولت من هدوء الأعصاب إلى الغضب الشديد إلا مرة واحدة ضربت فيها ابني وندمت بعدها ولم أكررها. لكن رفيقه في العمل عبدالله سالم المشعلي (51 عاما) قال: محمد صالح أثناء عمله يرفض بتاتا تشغيل المكيف أو المروحة، وهنا يتدخل صالح ويقول نعم أرفض ذلك لأنها تضر بصحة الإنسان أثناء وجود النار، إضافة إلى حرصي أن يكون الموقد أو الفرن أو الحفرة ساخنة وحارة لكي ينضج ما بداخلها. ويعود عبدالله قائلا: العمل هنا بالفعل مرهق جدا ويتطلب أن يكون الإنسان ذا بنية جسمانية جيدة لأن التعرض الدائم للنار يرهق الإنسان، وأذكر أن العم محمد صالح أحضر أحد العمال وكان ذا بنية ضعيفة جدا وهزيلة جاء لكي يساعدنا ولم يمض على عمله معنا بعد إشعال النار وارتفاع درجة الحرارة في هذا المكان سوى أربع أو خمس ساعات حتى وجدنا العامل وكان قريبا لي قد سقط مغميا عليه من شدة التأثير، ولهذا حملناه للمستشفى واتضح أنه لا يحتمل الحرارة الشديدة ومن هنا جعلناه يعمل بعيدا عن النار في مجال تجهيز الولائم وإعداد السلطات وفي غرفة مكيفة.